تحول السقوط السياسي العربي في هذه الأيام من مرحلة العمالة أو الوظيفة المغلقة أو المواربة إلى حالة العلنية والانكشاف النهائي، بل إلى حالة الخيار الإرادي ولربما المجاني للسقوط في أحضان أعداء الأمة ومغتصبي حقوقها وقاتلي أطفالها وشيوخها ونسائها، إن هذه الفكرة المكشوفة أوحت بها قصة هذا المؤتمر الأميركي المشؤوم في وارسو عاصمة بولندا، تلك الدولة التي كانت جزءاً عضوياً من المعسكر الاشتراكي حتى لحظة الانهيار، وتلك الدولة التي ارتبط باسمها حلف وارسو الذي كان النَّد الحقيقي لحلف الناتو الغربي الاستعماري، في صياغة هذا المؤتمر لم تكن هناك مناقشات للاشتراك فيه، بل كان الاستدعاء بالاسم لأولئك الذين مثلوا ستين دولة مشاركة في هذا المؤتمر وكان (النجم المصنع) في هذه المؤتمر هو نتنياهو رئيس الوزراء في الكيان الصهيوني وقد سوقوه على أنه هو المحور وهو المعيار لضبط سلوك الوفود المشاركة في هذا التجمع المفتعل وفي مقابل ذلك كانت هذه الصور التراجيدية التي انتظمت تصرفات ممثلي دول الخليج العربي في المؤتمر وأخطر اللقطات كانت حينما اجتمع هذا الثلاثي السعودي الإماراتي البحريني مع نتنياهو وحينها أعلن وزير خارجية الإمارات بقصد وتعمد أنه من حق دولة إسرائيل أن تدافع عن نفسها بكل الوسائل والأسلحة اللازمة لهذا الدفاع، والمؤتمر ذاته عقد عىي الطريقة الترامبية حيث لا أصول ولا مشروعية فيه وحيث لا أهمية لمن حضر ما دامت الأهمية كلها محصورة في إطار منهج التطبيع ما بين الحكام العرب ولا سيما في مشيخات الخليج والجزيرة العربية وكان هذا التوجه مهماً لأنه يعتمد على مقطعين، الأول هو تحويل العدو التاريخي المطلق إلى صديق مقرب ومحبب إلى درجة الانقلاب في المفاهيم وإنتاج حالة من الذهول عند كل أحرار العالم ودون أدنى إحساس بالشذوذ أو الخطر في دول الخليج والسعودية.
وفي المقطع الثاني رأينا هذا التعمد بالسلوك والكلام الصادم والبروتوكول في المصافحة وتوزيع الابتسامات وتقديم رئيس الوزراء الصهيوني على أنه نجم وبطل في هذه المرحلة، حتى لقد وصل الأمر بالسقوط العربي إلى الدرجة التي تحول فيها وزير الخارجية اليمني إلى خادم يقدم (المكرفون) باعتزاز باهت للمجرم نتنياهو، ويبدو أن المنهج الترامبي القائم على الصدمة والمفاجأة وإنتاج لحظات الدهشة قد أعطى مفعوله عند الحكام العرب.
ومن عجائب هذا المؤتمر أنه اشتمل على بندين خطيرين، الأول منهما هو تكريس الفكرة المسمومة الآن بأن العدو الأخطر للعرب وللإقليم وللعالم هو النظام في إيران، وكان ذلك بالتأكيد استكمالاً لمنطق السقوط العربي المكشوف في الحالة الصهيونية الأميركية لأن السياسة الأميركية الآن تضع في أولوياتها إنتاج نظرة سياسية وتاريخية إلى إيران على أنها العدو المطلق وليس الكيان الصهيوني عدواً ولا مطلقاً في اعتبارات هذا السياق، ومن هنا كانت الحالة (الفزعة) التي أتوا بها وبرموزها العجفاء من الجزيرة العربية والخليج ومن أماكن أخرى مبثوثة على مساحة هذا العالم، لم يكن هناك أي حساب لا للموقف الصهيوني بأعماقه وعدواناته ولا لأي اعتبار (ديني إسلامي) عند من يدَّعون بأنهم ورثة الإسلام وخدام حرميه الشريفين ولم يكن هناك أدنى إحساس بالخجل أمام الإنسان العربي المحاصر والمنكوب في هذه الأيام، كان هذا التوجه تياراً متكاملاً له تجلياته وله وظائفه وله أدواته وأسلحته وهو الذي سوف تكشف الأيام المقبلة كثيراً من معالمه وتطبيقاته العسكرية والسياسية والاقتصادية، أما البند الثاني في المؤتمر فقد تمثل في طرح عنوان عام وباهت حول القضية الفلسطينية لم يُدعوا للمشاركة في وقائع ومناقشات هذا التجمع المريب والمؤتمر بكل بنوده هو خطوة ولربما أكثر في قصة صفقة القرن عبر إنهاء القضية الفلسطينية من جذورها كما تعتقد وتنفذ السياسية الأميركية الراهنة وقد كان الاستكبار الأميركي هو المظلة التي حكمت وانتظمت ولعبت في هذا المؤتمر لدرجة أن البيان الختامي لم يكن صادراً عن المؤتمر وإنما كان عبارة عن وثيقة سياسية إعلامية عن الموقف الأميركي والبولوني، وبعد هذا الرصد الأولي يحق لنا كمتابعين وكبشر نمتلك العقول ونعتنق الكرامة أن نسأل عن الدوافع والأسباب التي أخذت هؤلاء الحكام العرب إلى هذه الدرجة من الهاوية وبكل هذا الشوق والتوق للارتماء في الحضن الأميركي الصهيوني بلا تردد وعلى المكشوف وهذه قصة تشكل فصلاً خطيراً ونوعياً في المأساة الحاصلة ولا نقول فيها إلا أن الجذور والأصول التي ينتمي إليها حكام الخليج هي في الأصل إسرائيلية بالمعتقد والانتماء والقرار السياسي وهذا بحث مستفيض آخر لا بد من دراسته.
د: أحمد الحاج علي
التاريخ: الاثنين 18-2-2019
الرقم: 16912