تمرُّ العقود الثلاثة على انتهاء الثنائية في النظام الدولي وخروج التجربة الاجتماعية الاشتراكية من الخارطة العالمية كمنظومة وانفراد التجربة الرأسمالية بثوبها الليبرالي الجديد، وعولمتها الإمبريالية، وإذا كانت نتائج الحرب العالمية 1939-1945 م قد فرضت بروز الاشتراكية كشريك عالمي في قيادة النظام الكوني فقد شهدت البشرية أنموذجين في الدورة السياسية للحياة الدولية، الأول: أنموذج يتطلع إلى الانتشار العالمي للرأسمالية بمرحلتها الإمبريالية، وعدم احترام سيادة الأمم على أرضها ولا حق تقرير مصيرها بنفسها ويعمل على اختراق قيم الاستقلال بالمزيد من التحكم الاقتصادي، ونهب الثروات الوطنية للشعوب، ومن يقاوم هذه الإرادة الإمبريالية تُشنُّ الحرب على بلاده، وتدمّر دولته الوطنية بخطاب القوة المتغطرسة. والأنموذج الثاني: يتطلع إلى التكامل مع الأمم الأخرى في حقل العلاقات الدولية على قواعد تبادل المصالح، والمنافع المشتركة، والحرص على الأمن والسلم الدوليين، وإنهاء مظاهر التدخل في الشؤون السيادية للدول الأخرى احتراماً لحق تقرير المصير بالإرادة الوطنية المخلصة والذاتية.
وحين صارت روح العصر في النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم تعكس ملامح الانتقال في المزاج العالمي نحو الاشتراكية كنظام للسلم الأهلي والإقليمي والدولي، وتنذر بوقف الانتشار العالمي للرأسمالية خاصة بعد أن عانت شعوب الأرض من خطاب القوة الإمبريالي الذي بدأ باحتلال فلسطين عام 1948م، ومر بالحرب الكورية، والفيتنامية، والعدوان المستمر على الدول العربية، والكاريبي (خليج الخنازير) وإيصال العالم إلى حافة الهاوية في حرب النجوم الريغانية… نعم لقد عاش المجتمع الدولي في النصف الثاني من القرن العشرين أخطر مراحل التاريخ الإنساني الحديث، وفي الزمن الذي أصبحت فيه الإرادة الديمقراطية للمجتمع الدولي تشير إلى رفض النزوع الاحتكاري والاستغلالي للنموذج الرأسمالي الليبرالي، وطريقته في قيادة النظام العالمي التي كانت دوماً تمثل حروب القوة المتغطرسة مقابل النظام الاشتراكي الذي كان يمثل الانحياز إلى حرية الشعوب ومساعدتها في التحرر الوطني، وبناء مجتمع السلم العالمي.. نعم في هذا الوقت أي في مطلع الثمانينات من القرن الماضي صعّدت الإمبريالية التوتر الدولي وخلقت أزمة برلين وصار العالم يترقب الشتاء النووي كما كانوا يتحدّثون عنه.. يضاف إليه أن ميديا دولية قد جُهزت للحديث على الدولة الاشتراكية في أنها من الداخل ليست دولة للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. واستطاعت آلة التضليل الإعلامي الدولي الليبرالية أن تشوّش على ما في الحياة الطبيعية للمجتمع الإشتراكي من قيم رفيعة في التعامل، والعلاقات الاجتماعية الوطنية لتبدو الدولة الإشتراكية بأنها أشنع دولة للاستبداد رغم أنها تقاوم الاستبداد العالمي للنظام الرأسمالي العالمي. ووفق هذا المنظور اخترق جدار المنظومة الإشتراكية العالمية وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي وانهارت في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، وقيل حينها: إن النظام الدولي الثنائي قد بني في يالطه 1945م وسقط في مالطة 1990م، ومن كثرة التهليل الإعلامي الغربي اعتقدت البشرية بأن القطب الوحيد أميركا سيأتي للنظام الدولي بالحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، ولم تمضِ الفترة القصيرة حتى شعرت شعوب الأرض بأن حليفها الذي كان يدافع عن حريتها، وحقوقها الوطنية، قد خرج من حلبة التاريخ، وأن القطب الأميركي يعزّز حلفه الأطلسي للمزيد من تطويع الأمم والتدخل في حياتها الداخلية وفي حقوق سيادتها وفق ما نصّ عليه القانون الدولي، ومواثيق الأمم المتحدة، وعليه فالقطب الوحيد لا يحترم الشرعية الدولية ولا يأبه بقرارات الأمم المتحدة، وصار يمارس حروب التدخل من خارج مجلس الأمن الدولي ولا رادّ لمشيئته العدوانية، وعليه فقد وصل العالم إلى أسوأ حالة في العلاقات الدولية القائمة على خطاب القوة الذي نسف قوة الحق عند الشعوب وجميع أشكال العدل في النظام الدولي القائم على زعامة اليانكي، والكاوبوي.
ولاحظ المجتمع الدولي أن الاستراتيجيات العالمية للقطب الوحيد الأميركي قامت على تفكيك الدول الوطنية، وتفجير مجتمعاتها من الداخل بنظرية الفوضى الخلاقة حتى يُدفع بالبشرية إلى نظام اللانظام، فينهار البنيان الدولي العالمي ويعود إلى إعادة البناء على الطريقة الأميركية، والمصالح وكأن الأمركة هي الملمح الأول لنظام البشرية كما تتطلع إليه الدولة الإمبريالية التي كانت تتفرّد بقيادة النظام الدولي.. وقد استمر هذا الحال حتى دخلت البشرية القرن الحادي والعشرين حيث رأينا كيف فبركت المخابرات المركزية الأميركية حوادث الحادي عشر من أيلول 2001م وحرقت برجي التجارة العالمية لتأخذ الذريعة بحرق العالم كما ترغب، فاحتلت أفغانستان، وبعدها العراق، وبدأ الضغط على سورية، ودُفعت إسرائيل إلى شنّ الحرب على المقاومة الوطنية اللبنانية 2006م وحالما فشلت هذه الحروب ولم تحقق لقطب الغطرسة الدولي المصالح الصهيونية التي يتكفّلها بالتنفيذ والتحقيق، ووجد أن سورية الدولة الوطنية السيادية تمثل دوماً الخندق الوطني، والقومي المواجه لسياسات الغرب المتصهين، والحريص على حماية القضايا العربية العادلة، وفي طليعتها قضية فلسطين تم التفكير بـــ تسونامي عربي يدمّر النظام الجمهوري العربي الذي سينتهي بتدمير الجمهورية العربية السورية وحدث ما حدث من 15/03/2011م حتى يوم الناس هذا.
ومن الطبيعي أن يصرّح نتنياهو قبل ذهابه إلى مؤتمر وارسو بأن علاقات إسرائيل المعلنة، وغير المعلنة هي مع معظم الدول العربية ما عدا سورية فلا علاقة لإسرائيل معها، ومن الطبيعي أن تشنّ الحرب الإرهابية علينا خدمة للمشروع الصهيوني الذي اتضح أن مؤتمر وارسو الأخير ليس سوى لمصلحتها والذريعة الخطر الإيراني، وكذلك حين تعلن أميركا ومعها الأطلسيين عن سحب قواتها من سورية من الطبيعي أن نحتمل سياسات غطرسة جديدة فأميركا لا تخلي الأرض من جنودها إن لم يكن لديها بديل آخر يخدم مصالح إسرائيل ومن ثم مصالحها المتطابقة معها.
وهذا ما يجعلها تورط الأكراد الانفصاليين أكثر، وتورط أردوغان لكي لا ينفّذ ما تمّ الاتفاق عيه في سوتشي بنسختها الثانية عشرة حتى تبقى المنطقة ولو خرجت القوات الأميركية – أي من شرق الفرات وغربه – تحت السيطرة الأميركية عبر الأدوات فالمهم أن لا تعود إلى السيادة السورية لأن أميركا الحريصة على إيجاد قاعدة عسكرية دائمة على المثلث بين سورية، والأردن، والعراق، ومتصلة بالمملكة الخاصة بآل سعود ليست حريصة على إنهاء الإرهاب وليست حريصة على الاعتراف بالنصر السوري عليه، وخاصة مع محور المقاومة الذي تبذل كلّ جهودها لتفكيكه، ووفقاً لمقتضاه، وتعويضاً عن الفشل الاستراتيجي للمخطط الأميركي الصهيوني الأطلسي الأعرابي في سورية تشنّ أميركا الحرب الاقتصادية على بلدنا حتى تصبح الحاجات الأساسية للجماهير معرضة للمزيد من الحصار، ويُعاقب الشعب الذي تماسك وطنياً وشدّ من أزر دولته الشرعية بالمزيد من الإفقار، والدفع أيضاً بإيصال الدولة إلى حالة الدولة الفاشلة حتى يتم تفريغ قوتها من الداخل ويأتي الانقضاض عليها هذه المرّة من عجوز الحوامل التنموية، وفرض حالة التراجع في النهوض الوطني المطلوب.
وهذا الحال تعلمه الدولة السورية، ولها من قوة تحالفها مع الدول المهمة في عالم اليوم إن كان في روسيا، أو الصين، أو الهند، أو إيران ما يجعلها تزداد صموداً، وما يتمّ من حصار عليها اليوم لن يكون أصعب مما تم عليها منذ السنوات التي خلت، وإرادة الوطن والوطنيين دوماً هي المنتصرة في نهاية كل مطاف.
د: فايز عز الدين
التاريخ: الاثنين 18-2-2019
الرقم: 16912