الثورة – ثورة زينية:
بعد حادثة انهيار سقف مبنى السرايا القديم وسط العاصمة دمشق ظهر أمس، المبنى الذي يعود إلى الحقبة العثمانية كان قد تعرض لحريق واسع في حزيران الماضي، ما ترك أضراراً هيكلية تعد عاملاً رئيسياً يحتمل أن يكون ساهم في هشاشته البنيوية، والتي أودت بحياة عدد من العمال وأثارت جدلاً واسعاً حول السلامة المهنية والإشراف الهندسي، يعود السؤال مجدداً:
هل تطبق معايير السلامة فعلاً في ترميم الأبنية التاريخية؟ أم إن ما يجري على الأرض لا يتجاوز اجتهادات فردية ومقاولات تجارية على حساب الأرواح والتراث؟.
سلامة تحت الأنقاض
الخبير في شؤون تخطيط المدن المهندس المعماري نزار القش، بين في توضيحه لـ”الثورة” أنه، وبناء على المعطيات التي توافرت، ثمة احتمال كبير أن تدخل عدة عوامل متداخلة قد أدت إلى الانهيار: منها تأثير الأضرار السابقة، فالحريق الذي اندلع في المبنى قبل أشهر قد يكون أحدث ضعفاً في مكونات البناء، سواء في العناصر الحاملة (الأسقف، الأعمدة، الجسور) أو في تقوية السقف، مضيفاً: لم يكن الترميم قد يعكس على ما يبدو تقييماً شاملاً لحالة الأضرار الحقيقية، ما يجعل المبنى عرضة لتداعيات إضافية تحت أي ضغط إضافي، أو حركة مفاجئة، إضافة لغياب إجراءات تقييم المخاطر الكافية ومن بين الأسئلة التي لم يعرف بعد مدى الإجابة عنها حسب المهندس القش: هل تم تنفيذ تقرير هندسي شامل قبل بدء الترميم؟ هل جرى فحص دقيق للبنية الأساسية من أساسات وأسقف وعوارض خشبية أو معدنية؟ وهل تم تحديد أي تشققات أو تلف أو تآكل يمكن أن يهدد الاستقرار؟
ويؤكد الخبير القش، أن الإشراف المهني والتنفيذ الفني ضروري جداً في عملية الترميم للأبنية التراثية، فهو يحتاج إلى خبرات متخصصة واختيار مواد ملائمة، وإشراف دقيق أثناء التنفيذ لضمان عدم إضافة أوزان أو حمولات زائدة على السقف أو البنية التي ربما تكون مترهلة أو تالفة، موضحاً أن التنفيذ العشوائي أو استخدام مواد غير مصممة لتلك الهياكل أو إهمال التدعيم أثناء العمل يمكن أن يفضي إلى مثل هذا الانهيار.
الترميم بغياب التخطيط
واعتبر أن نقص معدات الحماية والسلامة المهنية وعدم الاستعداد للحالات الطارئة في حال وجود عمال يعملون على الأسقف والترميم من دون تأمين الحماية الشخصية الملائمة أو من دون إجراءات وقائية كافية لمواجهة احتمالات الانهيار يعزز مخاطر وقوع إصابات أو وفيات، مضيفاً: كذلك توفر معدات إنقاذ سريع مثل الدعائم المؤقتة والتثبيت المؤقت أو تنفيذ عمليات تدعيم وقتية أثناء الترميم تعد من المحاور الأساسية المفترض وجودها في مواقع للعمل كهذه.
ويضيف المهندس القش: من هذا الحادث المؤسف في مبنى السرايا يمكن استخلاص أن الترميم والإنقاذ من آثار الحوادث السابقة لا يكفي أن يكونا طارئين، بل يجب أن يكونا مدمجين داخل منظومة مستدامة تضم تقييما فنياً شاملاً للمبنى قبل بدء أي عمل ترميمي يشمل تحليل قدرات العناصر الحاملة، والتأثيرات الجانبية للأضرار القديمة (كالحرائق، الزمن، الرطوبة) مع توثيق صوري وفني، مشدداً على وجود إشراف مهني هندسي مستمر من مختصين في الترميم والتراث وليس فقط بناء سكنياً تقليدياً، والتأكد من أن المقاول والعمال ملتزمون بمعايير السلامة المهنية وأنهم مزودون بالمعدات والحماية اللازمة، إضافة لتدخلات تدعيم مؤقتة سريعة، إن لزم الأمر، قبل تحميل العناصر المنهارة أو شبه المنهارة أي وزن إضافي.
وأكد المهندس القش أنه لابد من تشغيل مؤسسات رقابية فعالة ومستقلة وإشراك المجتمع المحلي في المتابعة مع شفافية في العقود والموافقات والتقارير الفنية، وتفعيل أكبر لنظام قانوني يضمن ليس فقط التعويض بعد الحوادث، بل أيضاً العقاب للمقصرين، وتحقيقات واضحة علنية وتغييرات تنظيمية تمنع تكرار هذه الحوادث.
وختم حديثه: إن انهيار سقف السرايا القديمة ليس مجرد حادث مفاجئ، بل هو نتيجة تراكم خلل فني وتنفيذي وتنظيمي، واصفاً إياه بأنه تحذير صارخ أن البنى التراثية تتعرض للخطر إذا ما تركت للمشاريع السريعة من دون احترام معايير السلامة والمحاسبة، وعلى الدولة أن تلتزم بما تعهدت به ليس فقط في التعويض، بل في بناء نظام يمنع تكرار المأساة من خلال اتباع نظام تقييم دقيق وتنفيذ محترف ورقابة شفافة ومحاسبة حقيقية.
فجوة مقلقة
مهندس معماري عمل سابقاً في قسم الترميم بمديرية دمشق القديمة- فضل عدم ذكر اسمه، بين لـ”الثورة أنه بين الوثيقة والواقع في ترميم المباني القديمة فجوة مقلقة، فوفق ما تنص عليه القوانين السورية يجب أن تخضع مشاريع الترميم في الأبنية التاريخية والتراثية لجملة من المعايير الفنية الصارمة تضمن سلامة العاملين وتحافظ على هوية المبنى وتمنع وقوع كوارث محتملة، لكن ما يجري على أرض الواقع- حسب وصف المصدرـ يشير إلى أن هذه المعايير إما غير مطبقة بالكامل، وإما يجرى الالتفاف عليها لمصلحة السرعة في الإنجاز أو بفعل غياب الرقابة والمحاسبة.
ويكشف المصدر عن تفاصيل الخلل في كل مرحلة من مراحل الترميم المتبعة بقوله: الفحص الفني المسبق للبناء والذي يفترض أن يكشف التشققات والتصدعات وحالة السقف والعناصر الحاملة، نادراً ما يتم بشكل علمي مفصل ما يجعل أي تدخل إنشائي بمثابة مجازفة خصوصاً في مبانٍ تضررت سابقاً بفعل حرائق أو عوامل الزمن، كما هو الحال في مبنى السرايا القديم.
وأضاف: في مشاريع الترميم الرسمية يفترض أن يتم بإشراف مهندسين مختصين بالتراث العمراني لكن الواقع يشهد بأن بعض المشاريع تسند إلى شركات أو جهات تنفيذ لا تمتلك الخبرة الكافية بطبيعة الأبنية القديمة أو لا تراعي خصوصيتها المعمارية، فعلى سبيل المثال إن التدعيم المؤقت للأسقف والجدران وهو الإجراء الأكثر حساسية يغفل في بعض المواقع، ما يجعل العمال عرضة لانهيارات مفاجئة كما حدث في مبنى السرايا، كما أن مواد البناء المستخدمة التي ينبغي أن تكون ملائمة ومطابقة للطابع الأصلي (مثل الجير الطبيعي والحجر الدمشقي)، يتم استبدالها أحياناً بمواد حديثة أثقل أو غير منسجمة مع البنية ما يؤدي إلى خلل في التوازن الإنشائي، لكن الأهم أن معدات الحماية والسلامة المهنية وهي حق أساسي للعمال غائبة في كثير من الورش، حيث يعمل العمال من دون خوذ أو أحزمة أو حتى إشراف فني مباشر ما يجعل أي حادث صغير يتحول إلى مأساة، مستشهداً بالعمال في مبنى السرايا والذين لم يكونوا يرتدون سوى ملابس عادية خالية من أي نوع من الحماية لسلامتهم وأمنهم المهني.
انهيار مفاجئ أم نتيجة حتمية؟
وأضاف المصدر: إن غياب الرقابة الهندسية الميدانية على مراحل التنفيذ، أو ضعفها يجعل من السلامة تفصيلًا ثانوياً لا يتم الالتفات إليه إلا بعد وقوع الكارثة، وتشير وقائع موثقة في عمليات التدعيم أو الترميم لبعض المباني التراثية والتاريخية في دمشق إلى أن بعض الأعمال تنفذ من دون وجود لجان فنية دورية، أو من دون أرشفة فوتوغرافية للمراحل ما يصعب حتى التحقيق بعد وقوع الحوادث، كما أن الترخيص القانوني المسبق والتنسيق بين الجهات المعنية (المحافظة– الآثار– الدفاع المدني– شركات التأمين) غالبا ما يكون شكلياً أو غير مكتمل.
ويختم حديثه: إن الحادثة الأخيرة في مبنى السرايا القديم ليست الأولى وقد لا تكون الأخيرة ما لم يتم تفعيل منظومة كاملة تعيد الاعتبار للسلامة المهنية وتفرض إشرافاً هندسياً متخصصاً في كل مرحلة من مراحل الترميم، فحين تنفذ مشاريع تراثية بمعايير غير تراثية وتدار بمعايير غير مهنية، فإن النتيجة الحتمية ستكون ضحايا تحت الركام وتراثاً مشوهاً فوقه.
انتقاد رقمي ومطالبات بمحاسبة عادلة
الحادثة أثارت انتقادات واسعة على وسائل الاعلام، ومنصات التواصل الاجتماعي، ووجه الكثيرون التساؤل عن مدى صيانة المباني الحكومية وخاصة المعالم التاريخية التي تمثل جزءاً من الهوية الجمعية، أحد رواد التواصل الاجتماعي علق على حادثة الانهيار: هناك شعور متراكم أن المسؤولية أصبحت تلقى على عاتق الزمن والنسيان، وأن الحوادث لا تعزى فقط إلى ظروف مفاجئة بل إلى إهمال طويل، الإهمال في الصيانة و الإهمال في التمويل وفي التصميم وفي الرقابة.
فيما دعا آخر على حسابه في منصة x بالمحاسبة الحقيقية لكل من تأخر في التقارير، وكل من أغفل المخاطر، وكل من سمح بالتراخي، وضمان ألا تمر المشاريع التراثية كمساحات عرضة للخطر من دون حماية.
تعويضات.. لكن من سيتحمل المسؤولية؟
محافظة دمشق أعلنت عزمها تعويض الضحايا، وتعويض عائلاتهم، وتجبر الضرر، ما يعد إجراء ضرورياً وإنسانياً، لكن يطرح السؤال عما إذا كانت هذه التعويضات ستكون سريعة وكاملة تشمل المصابين بعناية طبية كافية، ودعم نفسي، وهل ستفرض عقوبات قانونية على من ثبت إهماله أو تقصيره؟
القانون يجب أن يوضح من يتحمل المسؤولية: مهندس الترميـم أم المقاول، ومن هي الجهات التي صدقت على المشروع، من وافق على التقييم الفني، ومن تأخر في الصيانة، إن وجدت تقارير سابقة عن المخاطر، وهل هناك رقابة قضائية يمكنها متابعة التحقيقات بشكل مستقل؟.