كان يُعرف عن نيتشه أنه يبتعد عن الكتابة حين يكون الجو صحواً..
هكذا ببساطة يدير ظهره للورقة البيضاء لصالح الاستمتاع بيومٍ مشمس..
وكما لو أنه عقد نوعاً من الاتفاق مع أفكاره «الفلسفية»، بأن لا يقترب منها ولا هي تقترب منه حين ينعم بالقدرة على عيش الحياة بتفاصيلها الملوّنة..
فهل استطاع كثيرون من الأدباء والكتّاب، مهما اختلف جنس كتاباتهم، على تحقيق هذا التوازن، بين مهنة معانقة كلماتٍ والمواظبة على امتشاق القلم واستيلاد أفكارٍ، أدبية كانت أم فلسفية، وبين اقتحام الحياة بمختلف تشعبات دروبها..؟
الأفكار التي لا يجدها المرء من تلقاء ذاته، حسب الفيلسوف جيل دولوز.. تشكّل أساساً لعمل من يمتهن الكتابة بشتى أطياف صنوفها..
على هذا النحو.. تندغم حياة المرء/الكاتب في صلب مهنته.. أو العكس هو ما يحصل، بمعنى أن كتاباته تصبح مشغولة وفق إيقاع تفاصيله اليومية.. منزاحة إلى الانصهار إلى خميرة اليومي.. هكذا تبدو عجينة كلماته متخمة بطزاجة العيش وأدق انشغالاته.
هل قدر كثيرون على إنجاح وصفة الكتابة تلك..؟
بعض الكتّاب حين يقدرون على تحقيق معادلة التوازن، يصبحون مطواعين أكثر لاكتشاف نبع الأفكار.. يتحوّلون إلى صائدي أفكار.. يمتلكون هبة اختلاقها من كل ما تقع عليه أعينهم..
إنها النباهة والحذاقة المهنية التي تصوّب أدوات كتاباته نحو ما يغذّيها..
وهل من سبيل أفضل من التلصص على تفاصيل الحياة الملوّنة، بسلبياتها وإيجابياتها، مصدر يغني أفكار المرء/الكاتب..؟
بهذه الطريقة يصبح مستثمراً لكونه في «حالة ترصد»، كما وصف دولوز نفسه حين ممارسته نشاطاً ثقافياً كمتابعة فيلم أو حضور معرض فني.
ويوضّح أن الترصد هو ترصدّ اللقاء، الذي لا يعني اللقاء مع الأشخاص إنما مع الأشياء.. ويقصد اللقاء مع الأفكار.. إغناءها أو تفجيرها لتخرج.. يخاطر «بنيل لقاءٍ مع فكرة»..
إنها اللقاءات بوصفها وسيلة لشحذ همّة الكتابة وخلق مادتها الأولى التي هي الفكرة/الأفكار.
هل يعني الأمر أن حياة المرء تصبح حينها سخرةً في سبيل صيد الأفكار..؟
أيدخل حينها متاهة الأفكار..؟
وما أهميتها إن لم تُعِدْه أكثر جمالاً وقدرةً على الاستمتاع بالحياة..؟
إن لم تمنحه ملكة اكتشاف لذة الحياة في كل فكرة يتصيدها..؟
أن تقتات على الأفكار، وأن تغدو صائداً لها.. مهنة لعلها تجعلك وحيداً، لكنها بذات الوقت تعيد إليك بريق الحياة وألق لحظاتها.. لأنها تصهرك بتراب تفاصيلها.. كأنما أصبح لديك أعين أكثر اتساعاً وإبصاراً من جميع من هم حولك..
إنها وسيلة امتلاكك «رادار» يلتقط موجات التفاعلات جميعها.. تتخمّر على هيئة كل ما تخطّه.. وتتخلّق بأبهى الكتابات القادرة على جعل مختلف المتلقين أكثر شغفاً بالحياة.. وعلى رأي هنري ميلر: «ما جدوى الكتب إذا لم ترجعنا إلى الحياة، إذا لم تجعلنا نعبُّ من مائها بلهفة أشد».. وغالباً ما قصد بكلامه كلا الطرفين، كتاباً وقرّاء.
لميس علي
lamisali25@yahoo.com
التاريخ: الأثنين 18-2-2019
رقم العدد : 16912