مستويات ملحمية عديدة تتجسد أمام أبصارنا، تنتقل من مستوى إلى آخر ومن شخصية إلى تالية ، نشهد ملحمة إنسانية تلو الأخرى ، تُسطّر بمفردات مبدعة وبليغة خطوط الواقع السوري بكل ملامحه وأبعاده ، ذلك كله عبر فيلم (أمينة) إخراج الفنان أيمن زيدان ، وهو الفنان المبدع الذي تجول في عوالم درامية عديدة من التلفزيون الى المسرح والسينما ، وأبدع في كل منها بمفردات فنية آسرة، كان آخرها فيلم (أمينة) الذي يحاكي الواقع السوري بكثير من العمق والرؤيا المفعمة بالحياة، وفق أسلوب واقعي شفاف قادر على الإقناع، دون مبالغة أو إملاء، إنها الصورة الأجمل للإنسان السوري المعطاء الحنون القوي القادر على مجابهة أعتى الظروف بإنسانيته.
لخصت كل تلك الملامح الأم أمينة، القوية كالوطن، وهل مر على مدى التاريخ أعظم من الأم السورية، إنها منارة الزمان في تضحيتها وصبرها وقوتها وإرادتها، منحت التاريخ أساطيره العملاقة، والفيلم بأحداثه الدرامية وعوالمه الغنية ووقائعه صور سلبيات بكل صدق وحرص مسؤول تجاه الواقع بقصد التقويم ، وصور الإرهاب وتبعاته ومن استغل وجوده من تجار الأزمة التي حلت بأبناء الوطن ، كما صور الواقع بكل معاناته ومأساته، لكنه كان مطعّما في كل مشهد برؤيا جميلة تتكئ على الأمل . هي حالات تقارب الواقع مرتدية حلة الصدق ، فيستخلص الفيلم أجمل القيم وأقواها رغم الألم .. فهل هناك مأساة قاربت الواقع السوري وجراح شابهت جراح سورية ؟.. كاد يتطابق واقعها مع شخصية أمينة الأم، فتصبح صورة عن سورية التي تعيش الأمل والإرادة في قوة حنانها وموقفها القوي تجاه أبنائها واستمرارها في التحدي والعمل عنوة عن الخراب والنار التي حرقت أرضها ، كانت المعادلة بليغة في جانبها الرمزي كما الواقعي والدرامي ، هي الأم التي تعيش أقسى الظروف وأصعبها تجابه الجراح والأوجاع بكل عزيمة ، تحارب على كل الجبهات وتواجه أزماتها الفردية كما أزمات وطنها، وتبقى مستمرة في العمل والعطاء ، كم
امتلكت القدرة على مساعدة الأخريين ، إنها قوية كالحياة ، لا أحد يقف في وجهه إنسانيتها واحتضانها وتغلبها على كل مأساة، فها هو الابن الذي عاد عاجزا يركن ساكنا أمام أعينها خامدا دون حياة بعد إصابته بإحدى القذائف الغادرة التي أقصته عن الحياة وأقعدته، كما أقعدت العديد من شبان سورية، ليكونوا شهداء أحياء أمام أعين ذويهم .
أمينة أرهقتها المأساة والديون وإصابة ابنها ، أرهقها شقاء ابنتها التي أراد أحد الجشعين أن يستغل الأسرة لتزويجه إياها محاولاً سرقة شبابها رغم رفض الجميع له، وعمل الأم كخادمة لترد له ديونه، مدافعة عن مستقبل ابنتها وحياتها، فتقف في وجه ذاك الرجل الذي يتاجر بالأزمات دون شفقة أو رحمة، ليجسد وجها آخر للارهابين، فهو خراب من نوع آخر، وقد حاول الاعتداء على الفتاة أمام أعين أخيها المقعد ، الذي لم يحتمل الأمر وعجزه الدفاع عنها ليصدم ويموت ، أصيب بقذيفة من داعش أبعدته عن الحياة ومات بسبب تصرفات غادرة من تاجر الأزمة الذي يعتبر وجها أخر لداعش ، وقد حملت تلك المعادلة أبعادا هامة تقول أنه لا يكفي أن تحارب داعش، بل هناك تجاوزات توازي بشاعتها .
إلا أن أمينة بقيت صامدة كالجبال الراسخة، تعمل وتتابع عطاءها، تواجه الدمار وعيونها تتجه إلى الإعمار بقوة عزيمتها، ساعدت الجميع، لم تستسلم ولم تسلّم أو تجامل، بل دافعت عن ابنتها ولم تقف عند حال، وتابعت ما يؤكد جبروتها واستمرارها وتحديها لكل شيء .
آنا عزيز الخضر
التاريخ: الجمعة 22-2-2019
الرقم: 16916