إذا كان المفكر الإيطالي انطونيو غرامشي قد تحدث عن المثقف العضوي الذي يعبر في كتاباته ومواقفه عن مصالح مجتمعه ووسطه الاجتماعي سواء كان عاملا أم فلاحاً أو طبيباً ومهندساً بهدف تحقيق مصالحه وطموحاته وهو المرتبط عضوياً فيه، فما حال مثقفنا العربي الذي يفترض فيه التعبير عن مصالح مجتمعه وقبل ذلك نشر الوعي الذي يوفر مساحة حقيقية من الحرية سواء كانت حرية التفكير ام حرية التعبير، ولعل الأولى هي الأكثر أهمية من وجهة نظرنا لجهة انها تفسح مساحة واسعة للعقل كي يحدد خياراته من منظور عام وقراءة للواقع وفهم حقيقي للمجتمع والحياة على وجه العموم، وعلى تلك الفرضية يمكننا القيام برحلة تفتيش في أروقة ثقافتنا العربية بقصد الوصول لجيناتها وعناصر تشكلها الأولى ووضعناها في مخبر التحليل العقلي والتاريخي لاكتشفنا أن المشكلة الحقيقية في مجتمعاتنا تكمن في تشكيل منظومتنا الثقافية وحقلنا المعرفي الناظم لها، ما يستدعي الحاجة الماسة للقيام بعملية نقدية عميقة لبنيتنا الثقافية يمكن أن تصل بنا إلى نتائج جوهرية تشكل الأساس لنهضة حقيقية، وهذا ان حدث يستدعي على التوازي عملية نقدية عميقة للمنظومة التربوية بدءاً من المرحلة الابتدائية وصولاً للجامعات ينتهي بانجاز نظام تربوي عقلاني متحرر من كل أشكال تخدير العقل وتكريس مساحة واسعة للعلوم الفلسفية في المنهاج لتشكل الانطلاقة لمجتمع حر التفكير يمثل العقل فيه المرجعية والأساس في النظرة للحياة والكون، من هنا يصبح الدور والمهمة الأساسية أمام الكتاب العرب السعي والعمل الحثيث لتحرير العقول وصولاً لحرية التفكير التي تتقدم كثيراً على حرية الكلام، والتعبير لان الفكر اسبق من التعبير وفق أحدث الدراسات العلمية والفلسفية .
إن الحقل المعرفي المتشكل أساساً من أوعية ثلاثة روحي وفلسفي وعلمي يستدعي التركيز على مساحة واسعة من الوعاء العلمي لتشكل المنطلق في طرائق التفكير والانطلاق إلى التجريب والبحث والتقصي، وصولاً لبيئة وحياة افضل للإنسان الذي عاش منذ ألاف السنين حالة صراع مع الطبيعة ليكيفها وفق احتياجاته وضروراته ويدرأ مخاطرها التي عانى منها كثيراً في رحلة البحث عن الأمان أولاً، وصولاً للسعادة والعيش بحرية تنأى به عن مخاطرها وأهوالها لجهة السيطرة عليها أو على الأقل التقليل من مؤثراتها السلبية على حياته بعد امتلاكه وتمكنه من أدواتها المعرفية وقوانينها الكلية التي باتت إلى حد كبير بمتناوله .
إن واقع مجتمعاتنا العربية في غالبيتها ومن منظور ثقافي يشير إلى أنها تدور في حلقة مفرغة بل وبشكل شبه دائري في إطار البنية الثقافية المتشكلة تاريخياً، ومن مصادر تكاد تكون ثابتة تعيد إنتاج نفسها، ما يستدعي الحاجة الماسة الى مثقف يحمل معولاً لهدم كل ما هو سلبي في منظومتنا الثقافية شكل عبئاً تاريخياً على تطور مجتمعاتنا، تعقبها عملية بناء عقلي يؤسس لثقافة اجتماعية متفاعلة مع معطيات العصر وحقائقه العلمية، وتسقط كل ما يعتقد انها مسلمات، هي حقيقة لا تملك إمكانية المواجهة أمام منطق التحليل العلمي وحقائقه، وتعيد انتاج منظومة تفكير مرجعيتها العقل المتحرر من كل أشكال الاستلاب والإرهاب الفكري الذي مورس طوال مئات السنين، الأمر الذي أحال العقل إلى ما يشبه الموت السريري او العطالة الدائمة التي تصل إلى درجة الاستقالة عن التفكير .
إن الحديث عن تشكيل ثقافة عصرية لا يعني إطلاقاً القطيعة مع الماضي أو الارتحال إلى ثقافة أجنبيه في ظل ما تشهده البشرية من تحول هائل في وسائل الإعلام والغزو الثقافي عبر القوة الناعمة وتصدير النموذج الغربي كأسلوب عصري للهيمنة، ولكنه حديث عن تطوير الذهنية وتوطين الفكرة الجذابة مع الحفاظ على الهوية عبر إعمال العقل والتفاعل الإيجابي مع معطيات الحضارة الإنسانية التي هي في حقيقتها عصارة تجارب الشعوب كافة عبر مسارها التاريخي، وترحل مراكز الحضارة شرقاً وغرباً، ولا تعني أيضاً اقنومية أو صنمية ضيقة سلبية نستسلم إليها بقدر ما هي دعوة لإعمال العقل وتحريره من كل أشكال الاستلاب، فالحرية الحقيقية تكمن في اطلاق العنان للعقل والتفكير حيث يمثل النعمة الإلهية التي تؤدي إلى السعادة عبر المعرفة والتبصر والاستشراف والاكتشاف .
د.خلف علي المفتاح
khalaf.almuftah@gmail.com
التاريخ: الأثنين 25-2-2019
رقم العدد : 16917