ربما جاز لي أن أكثف المطلب الأساس الذي ينبغي أن تتطلبه نظرية الأدب من الكتابة، أو من الكُتَّاب بوجه عام، في أن من واجبهم جميعاً أن يبذلوا قصارى جهدهم كي يجعلوا النصوص التي ينتجون قادرة على البلوغ إلى سويداء الفؤاد، إذ إن كل نص لا يتغلغل في روح المتلقي، ليس سوى لغوٍ سوف تلغيه الأيام، إن لم يكن قد اغتال نفسه بنفسه ساعة ولادته بالضبط.. وبما أن الأدب عامة، والكتابة بالمجمل، والشعر خاصة، نادراً ما يبلغ هذا الشأو المأمول، أي هو نادراً ما يتدفق في الأوردة حتى يصل مركز النفس فيفعل سحره..
وبما أن الشعر، غالباً، تعبير عن الوجدان الإنساني، فإنه سيظل مفعماً بكل إيحاءات الوجود مادام الوجود مستمراً، وإذا كنا نطالب الشاعر أو الكاتب بأن يمنحنا التفاؤل، فإننا مطالبون بفهم مجاهل الشعر والأدب المغلقة، ومحاولة الدخول إلى سحر فاكهتهم الجذابة، ومنه قول «عمار بلحسن» الدارس السيسيولوجي والأديب: «الشعر فاكهة الكلام».
والشاعر الحق من يغوص في سراديب الذات ليولد لنا عناقيد أرجوانية من اللذة ونحن نقرأ نصوصه وأسفاره، لنكتشف إلى أي مدى كان «شيلي» محقاً في دفاعه عن الشعر حين قال: «بأن الشعراء هم مشرعو العالم غير المعترف بهم».. إن الشعر يولد من التفاصيل الصغيرة، ومنه «فإن الأثر الأدبي يمتلك العناصر والمقومات التي تجعل منه نصاً قابلاً للخلود، ولعل أهم هذه المكونات قدرته على فرض نفسه بنفسه للاكتشاف بأنه يغدو أمام كاتبه أو قارئه سؤالاً..»
على حد تعبير رولان بارت، وهكذا يصبح النص مالكاً لخفايا يجهد القارئ نفسه في فهمها ومحاولة قراءتها تبعاً لثقافته وأدواته التي يواجه بها النص، وبتعدد القراءات فإن النص يخترق كل الحدود ويثبت قدرته على البقاء لا محالة, «إن الأثر الأدبي لا يخلد لكونه فرض معنى وحيداً على أناس مختلفين، وإنما لكونه يوحي بمعانٍ مختلفة لإنسان وحيد» كما يقول بارت، وعليه فقراءتنا للنص من جوانب مختلفة تمنحه طاقة للاستمرار. والنص المختلف هو ذلك الذي يؤسس لدلالات إشكالية تنفتح على إمكانات مطلقة من التأويل والتفسير، فتحفز الذهن القرائي وتستثيره ليداخل النص ويتحاور معه.. إنه الشعر الذي يستطيع أن يقدم نفسه بكل هذا البهاء والرونق، مهما قيل أو سيقال عنه بأنه فقد شيئاً من مكانته بين أجناس الأدب أو الفنون الأخرى وسط هذا الركام، فستظل الكلمة الفصل للشاعر الذي يشكل المعيار الحاسم في هذه المعادلة الصعبة.
يقول طاغور: «حين أفكر في الغبطة التي تبعثها هذه الكلمات في عِطْفيّ، أدرك قيمة الدور الذي يؤديه الجرس اللفظي والقافية في القصيدة، إن الكلمات تفيء إلى الصمت، ولكن موسيقاها تظل ممتدةً، ويبقى صداها موصولاً بالسمع، وهكذا فإن المطر لايزال يهمس وأوراق الأغصان ما تني ترتعش حباً، حتى الآن في ذاكرتي», فما هو الشعر إن لم يكن ضرباً من الجمال؟ ما هو الشعر إن لم يكن رسماً بالألفاظ التي يتم اختيارها بعناية لتعبر عن سيل من العواطف الإنسانية؟ ما هو الشعر إن لم يكن كما هو اسمه شعوراً إنسانياً صادقاً؟.. ما هو الشعر إن لم يكن محاولة لفهم العالم بوسائل بشرية بالاستعانة باللغة بكامل عناصرها التي تتوفر لذلك الإنسان المحظوظ الذي يمتلك تلك القدرة على حياكة الكلمات لتصنع نسيجاً جميلاً كما الجمال نفسه؟.. ما هو الشعر إن لم يكن مصدره ذلك اللغز العذب الذي يسمونه إلهاماً؟ وما أدراك ما الإلهام؟.. وما هو الشعر إن لم يكن فناً كسائر الفنون، ولا يكون فنا بغير الجمال الذي يجذب حواس الإنسان إن تبقى لديه شيء منها. لا يمكن أن يكون الشعر شعراً إذا كان مباشراً ودقيقاً وصريحاً كقطعة مأخوذة من كتاب فيزياء، لا يمكن أن يكون الشعر شعراً إلا إذا رافقه شعور بالاكتشاف، وشعور بالحقيقة، ولا يمكن أن يكون الشعر شعراً إلا إذا كان مدعوماً بوعي بواقع العالم ونظرة معينة للأشياء، أو ربما ما نسميه ثقافة.
ليندا ابراهيم
التاريخ: الجمعة 1-3-2019
الرقم: 16921