صدمت و تلقت صفعات قاسية .. فاستجمعت قواها و لملمت جراحها فصمدت ، و أبحرت وسط أعاصير عاتية محصنة بانتماء متجذر و حب وطني فنجت ، و إلى بر الأمان جدفت بذراعين من حديد و قلب استعار صبرا من أيوب ، فوصلت دون أن تغرق في مستنقعات اليأس و الإحباط ، لأنها تعي ضرورة النهوض و الثبات للمساهمة ببناء المجتمع و إعادة إعمار الحجر و البشر .
تلك هي الأسرة السورية التي أدركت حرباً اقتصادية ظالمة وجهت ضد صمودها ، فسارعت إلى تحصين نفسها مادياً لتجتاز المحنة بأقل ما يمكن من خسائر لتكسب الرهان ، فابتكرت استراتيجيات ذكية للمواجهة و المقاومة ، و أبدعت في استنباط طرق فريدة من نوعها لاحتواء التغيرات المادية و امتصاص جنون الغلاء ،
تأقلمت فأدهشت عينا مراقبة و انتزعت احترام مراهنين على استمرارية و تحمل لم يجيدهما إلا مواطن سوري مرابض لم يهاجر خارطة وطن .
المصروف بالورقة و القلم
من طبقة متوسطة اجتماعيا ذات قدرة مادية لا بأس بها تعيش كفاف الحال و التمتع برفاهية مرضية نوعا ما ، من راتبه الوظيفي و راتب زوجته العاملة معه في ذات المؤسسة ،كان يستطيع تحقيق توازن مقبول بين الدخل و الإنفاق ، كان هذا حال السيد برهان حمود الذي قال .. لم يعد الحال كما كان قبل ارتفاع الأسعار و تدني قيمة الراتب الوظيفي ، بشكل جعل الراتب يتلاشى في أول عشرة أيام من الشهر ، و ما كان متاحاً في السابق بالاستهلاك بات يحسب له ألف حساب ، لذلك بحثت عن عمل إضافي مسائي و قلصنا قائمة المشتريات إلى النصف تقريباً ، و التسوق أصبح عملية مدروسة و محسوبة بالليرة و الورقة و القلم ، فأيام البحبوحة و التسوق العشوائي و تحقيق الرغبات ولى .
المرأة المدبرة
الكثيرون من ذوي الدخل المحدود لعبوا لعبة البدائل و منهم من لجأ إلى سياسة المقاطعة حتى لا يغرق بالديون و يقع في شراك القروض و ما تجره من توابع تنغص حياة العائلة و تخنق الميزانية ، تقول أم إياد و هي تعمل في محل تجاري للألبسة الجاهزة تقول: المرأة المدبرة تعرف كيف تحمي ميزانية العائلة من الانهيار والعوز ، أن نحضر طعاما و نرتدي الملابس كالسابق مستحيل مع هذه الأسعار ، و لكن مع الحكمة باختيار البدائل بين الأصناف و التوجه إلى الأسواق الشعبية و اللجوء إلى البالة ، و اختيار التوقيت المناسب للتسوق كموسم التنزيلات ، يمكن أن يوفر مبالغ لا بأس بها ، أما بالنسبة للملابس و الأطعمة الغالية فقد نسيناها منذ زمن .
مشاريع صغيرة
راتب زوجها لا يكفي و الأولاد كبروا ، و متطلبات الحياة اليومية تكسر الظهر ، لذلك سارعت هند إلى الوقوف مع زوجها كي تحصن أسرتها مادياً و تبعد عنها شبح العوز ، و بدأت بمشروعها المتواضع ضمن المنزل ، لتعد بعض الأصناف من الطعام و تساعدها ابنتيها بعد الانتهاء من الواجبات المدرسية ، تقول : كان لابدّ من العمل و لأني لم أكمل تعليمي ، وجدت انه يمكنني الاستفادة من خبرتي في إعداد بعض الوجبات للولائم وللسيدات اللواتي لا يتقن صنعها ، و هو مشروع يدر دخلا لا بأس به .
انقلابات جذرية
لكي تحصن الأسرة نفسها مادياً هناك استراتيجيات عليها إتباعها ، حتى تصمد أمام الانقلابات الجذرية و التغيرات العاصفة التي لامست ميزانية الأسرة ، فأصابتها بالوهن و ألحقت بها العوز بعد ازدهار و انتعاش نسبي قبل مداهمة الأزمة لجدران بيوتنا ، فكيف استطاعت أسرنا السورية الصمود المادي في وجه تلك العاصفة ؟ ..
ترى الدكتورة هناء برقاوي – الاختصاصية في علم الاجتماع أنه إذا أردنا الحديث عن استراتيجيات تحصين الأسرة مادياً ، لابدّ من أن نعرج إلى الوضع الاقتصادي و المعيشي للأسرة خلال الحرب على سورية ، و الذي كان له أثر على جميع مناحي الحياة ، و كذلك على الخلية الأساسية في المجتمع و هي الأسرة ، إن سبع سنوات كانت كافية لزلزلة كيان الأسرة مادياً و عصف ميزانيتها بشدة لم ترحم الطبقات المتوسطة و الفقيرة ، و التي وجدت نفسها بين ليلة و ضحاها في ضائقة مالية بعد ارتفاع حاد في الأسعار نتيجة العقوبات الاقتصادية التي كانت من تبعات الأزمة ، بينما لم ترافق تلك القفزات في أسعار السلع الضرورية زيادة في الرواتب تتناسب طرداً معها ، فتدنت القدرة الشرائية لدى ذوي الدخل المحدود و حلت بنود المتطلبات الحياتية الضرورية إلى أحلام مؤجلة و صعبة المنال لدى الكثيرين .
بينما استطاعت بعض الشرائح من زيادة دخلها بما يتلاءم مع التضخم المادي الذي رافق سنوات الأزمة ، كأصحاب بعض المهن و الأعمال الحرة كالحلاقين و الخياطين و ممارسي المهن الخدمية كالنجارة و الحدادة و أعمال البناء الذين حلقوا بأجورهم بذريعة ارتفاع الدولار و زيادة تكلفة المواد الأولية ، كذلك الأمربالنسبة للمهن العلمية كالأطباء و المحامين و المهندسين الذين رفعوا أجورهم بشكل يزيد من وطأة الغلاء على المواطن الفقير الذي بقي يتقاضى أجراً لا يتناسب مع الظروف المعيشية و أقل من قيمة المشتريات الضرورية التي يحتاجها بشكل ملح كالغذاء و الكساء ، فأصبح يلجأ إلى الاستغناء عن كثير من الأمور الضرورية إضافة إلى المتطلبات الكمالية التي باتت حلماً منسياً بالنسبة للطبقات المتوسطة التي انضمت إلى شريحة الفقراء و كذلك الحال للفقراء الذين ازدادوا فقراً .
عزوف عن الضروريات و الاعتماد على النفس
و برأيي الدكتورة برقاوي أن النظرة إلى بعض الضروريات اختلفت عما قبل الأزمة ، فهناك الكثير من الضروريات عزف عنها الناس بسبب الغلاء و أصبحوا يعتمدون على النفس مثل قص الشعر في البيت، كذلك الأمر بالنسبة للطعام الجاهز الذي لم تعد أسعاره مناسبة لبعض الشرائح الاجتماعية من ذوي الدخل المحدود ، كما لجأ الكثيرون إلى القيام بأعمال الصيانة المنزلية بأنفسهم ليتفادوا أجرة اليد العاملة التي ارتفعت بشكل صارخ .
و أوضحت الدكتورة برقاوي أن الظروف الاقتصادية الحالية أثرت بشكل كبير على فئات الموظفين و الطبقة المتوسطة ، الذين تضرروا من هذه الظروف و أصبحوا من الفقراء ، و لتحصين أنفسهم مادياً كان عليهم البحث عن عمل ثان إضافة إلى دوامهم ، و هناك الكثير من الأسرة اضطرت إلى تشغيل الأبناء بأعمار صغيرة نسبيا 15 عاما و ما فوق ، هذا إضافة إلى عمل الزوجة ، كل ذلك من أجل تأمين المتطلبات الضرورية للأسرة لكي تصمد في وجه الغلاء المتزايد في أسعار السلع و إيجارات المنازل التي فاقت الدخل بكثير و حلقت إلى أسعار خيالية .
بين الدخل و الإنفاق هناك فجوة كبيرة لابدّ من ردمها لكي تعيش الأسرة السورية في حالة من الاكتفاء و ليس البحبوحة المادية ، حيث يبلغ متوسط متطلبات الأسرة شهريا 250 الفا للعيش في حالة اكتفاء ( إذا كان البيت ملكاً للأسرة و ليس أجرة) .
تحسين الوضع المعيشي ضروري
و أكدت الدكتورة برقاوي إلى ضرورة تحسين مستوى الدخل لتحصين الأسرة السورية ماديا و عدم وقوعها فريسة للحاجة و الفقر و ما يتبع ذلك من مشكلات تنعكس على العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة مردها الفقر و عدم القدرة على تلبية متطلبات الزوجة و الأبناء و التقصير في تأمين الاحتياجات الضرورية ، و قد تتورط بعض الأسر في الديون و يصعب عليها السداد ، أو ربما يضطر رب الأسرة أو بعض أفرادها إلى مخالفة القانون كقبول رشوة أو اللجوء إلى أساليب ملتوية للحصول على المال ، ما يؤدي إلى نتائج كارثية تودي إلى السجن .
إذا المفروض أن يكون هناك حل جذري يسهم في دعم الأسرة ماديا و تحصينها في وجه التغيرات الاقتصادية التي أتت على الراتب المتآكل ، و قد أشارت الدكتورة برقاوي إلى ضرورة ان تتولى دورها في تحسين ظروف المواطن ، من خلال زيادة الرواتب بما يتلاءم مع الأسعار ، و العمل على تخفيض قيمة المواد الشرائية و ضبط الأسواق و مراقبتها ، و ذلك لكي يستطيع المواطن ذو الدخل المحدود تأمين احتياجاته الضرورية .
تكاتف أسري
و الحل الثاني يقع على عاتق المواطن ، إذ لابد من تكاتف أفراد الأسرة و العمل و عدم التراخي ، حتى إن كانت الزوجة غير متعلمة ، فهناك بعض المنظمات التي تعطي القروض الصغيرة لإقامة مشاريع صغيرة ( خياطة و حلاقة و طبخ منزلي) تسهم في دعم الأسرة ماديا و تحسين مستواها المعيشي .
و أخيرا يمكن القول: إن الأسرة السورية تفوقت على نفسها ، و استطاعت متكاتفة تجاوز الأيام الصعبة ، ربما ذاقت طعم الحرمان و أضناها التقشف و أنهكها اللهاث وراء اللقمة ، و لكن يبقى الرجاء و الأمل بدعم حكومي يسهم بزيادة الدخل و الرواتب ، لكي تنهض بثبات و تسهم بقوة في بناء سورية الحديثة .
منال السمّاك
التاريخ: الأحد 3-3-2019
الرقم: 16922