طريق الإشراقات والعوالم البدائية

الملحق الثقافي..ناظم مهنا :

النقد بين صحراءين
كان للدكتور محيي الدين صبحي آراء في النقد عميقة ومحرِّضة على التفكير، في كتابه: «د.إحسان عباس والنقد الأدبي». ناقد كبير يكتب عن ناقد، أستاذ كبير في النقد، ومرجعية مرموقة عند المثقّفين العرب إنه إحسان عباس.
يرى صبحي في هذا الكتاب، أن النقد ليس منهجاً بل إجراءات، ولدى الدكتور إحسان عباس إجراء نقديٌّ وليس منهجاً، وهذا دليل على أنه ناقد أصيل، هذا الناقد يترك للنص قيد الدراسة أن يحدد منهجه، فالنص الاجتماعي يتطلب تحليلاً للخلفية الاجتماعية، والنفسي للنفسية. ويقول صبحي: إلا أن المسألة لو كانت بهذه السهولة لجاء النقد أهون أنواع الدراسات الفكرية في حين أنه أصعبها. ويرى صبحي مع إحسان عباس ونقاد آخرين أن الأدب ليس المعنى في ظاهر اللفظ، وليس المعوَّل على ما يقوله النص، فكما أن البنية أو النسيج أهم من المعنى المباشر، كذلك فإن الإيحاء والتذوق أهم من مضمون النص ورسالته. وفي هذا المجال يؤكد الدكتور محيي الدين مكانة الناقد إحسان عباس، ويرى أن ما من أحد من العرب يعلو عليه، وإحسان عباس ناقد تطبيقي، ومن الخير له وللنقد أن يكون كذلك في هذه الحقبة بالذات، ويقول صبحي نقلاً عن نورثروب فراي، إن مجموع النقد الأدبي يمكن أن يكون حاشية على كتاب «الشعريات» لأرسطو، ويشير فراي أيضاً إلى قلة منظّري النقد في تاريخ النقد العالمي. مع ذلك، عندنا نحن العرب يُقفَزُ على هذه الحقيقة، ونكاد لا نجد مثقفاً عربياً لم يتسوَّر على النقد، ويتفضل بتنظير من نوع آخر، لما «ينبغي» ولما «يجب» أن يكون عليه الأدب. وفي رأي الدكتور محيي، أن هؤلاء كلهم أعجز من أن يتصدُّوا لنص من النصوص بالتحليل والنقد.

 

 

 

ويرى صبحي أن نقد الدكتور إحسان عباس ازدهر بين صحراءين، إحداهما التنظير السطحي، والأخرى صحراء الدراسات الجامعية، وهي أشد إمحالاً وقحطاً، وهم في أحسن الأحوال يتحدَّثون عن المنهج ولا يعرفون أن النقد لا منهج له بل إجراءات.
الأدب بين أكسل ورامبو
«أدموند ولسون» الناقد الأمريكي اليساري (1895-1977م) صاحب كتاب «قلعة أكسل» نقله إلى العربية جبرا إبراهيم جبرا، في هذا الكتاب، يرى ولسون أنَّ الكتَّاب في مجتمعنا المعاصر، أمامهم طريقان متعاكسان لا ثالث لهما، لهم أن ينتهجوا أحدهما، وهما: إما طريق أكسل أو طريق رامبو.
فإذا اختار الكاتب الطريق الأول (طريق أكسل) فإنه ينغلق على نفسه في عالمه الخاص، منمِّياً خيالاته الخاصة، ومشجِّعاً جنوناته الخاصة، ومفضِّلاً في النهاية أسخف تهاويله، على أدهش حقائق عصره، ومتصوراً في النهاية أن تهاويل خياله هي الحقائق بعينها.
وإذا اختار الطريق الثاني، طريق رامبو، فإنه يحاول أن يخلِّف القرن العشرين وراءه، لكي يجد الحياة الفاضلة، في بلد ما لا تشكِّل فيه للفنان وسائل الصناعة الحديثة، والمؤسسات الديمقراطية الحديثة أيَّ إشكال، لأنها لم تصل إلى هذا البلد بعد.
عالم أكسل؛ عالم الخيال الخاص، المقيم في عزلة عن حياة المجتمع، من أبرز سالكي هذا الدرب في القرن العشرين مارسيل بروست، جيمس جويس، ت.س. إليوت، وهنري برابوس وقِسْ على ذلك.
الطريق الثاني طريق الإشراقات، الرحلة إلى الشرق وإلى العوالم الهامشية والبدائية، كالرحلة نحو الضوء والشمس، كولع أندريه جيد بأفريقيا، وولع كتَّاب غربيين بشرق آسيا مثل لافكاديو هرن وهرمان هسه، ولوكليزيو بالمكسيك..
لكن من هو أكسل؟ يكشف لنا إدموند ولسون أن «أكسل» كتاب ألّفه الفرنسي «فلييردي ليل آدم» عام (1890م) وهو آخر ما كتبه هذا الكاتب، أشبه بقصيدة درامية طويلة من نثر، وجاء خلاصة لمثاليته الخاصة والغريبة وتعبيراً نهائياً عنها. الكونت «أكسل دي أورسبورغ» شخصية البطل في هذه الرواية: «شاب يتمتع بجمال رجولي رائع، مرفق بشحوب يكاد يشع، وتعبير غامض من كثرة التفكير، يقيم في جو نصفه فاغنري، ونصفه الآخر رومانس قوطي، في قلعة قديمة معزولة في أعماق الغابة السوداء، إذ أوقف نفسه على دراسة فلسفة الكيميائيين الباطنية…» وعن هذا الكتاب يقول الشاعر الإيرلندي «ييتس» إنه قرأه في أوائل شبابه، ببطء وجهد كمن يقرأ كتاباً مقدّساً، ووصفه المؤرخ الأدبي الفرنسي «لالو» صاحب كتاب «تاريخ الأدب الفرنسي المعاصر» بأنه فاوست أواخر القرن التاسع عشر.
إذاً، حسب إدموند ولسون، الأديب المعاصر، عليه أن يختار أحد الدربين؛ درب أكسل الذي يفضي إلى العزلة والعتمة، أو درب الشاعر الإشراقي آرثر رامبو! لكن من المؤكد أن القلعة تحتاج إلى التهوية، وطريق رامبو إلى «عدن» التي فقدت جاذبيتها ولم تعد مقنعة، والطريقان ضيقان ولم يعودا يلبيان حاجات المسافرين الجدد وتزاحمهم.
نحن والبياتي
في كثير من الجدل، مع الأصدقاء، حول الشعر والشعراء القدامى والمعاصرين، كنت أصطدم بمواقف بعض الأصدقاء المتعصّبين للجماليات في القصيدة، كانوا ينكرون، مثلاً، أن يكون للبياتي قيمة شعرية حقيقية. وبعضهم ذهب إلى أنه ليس أكثر من دعاية أيديولوجية، أطلقت في مرحلة ما ثم انحسرت بعد أن بلغت ذروتها، وسمعت مرة الناقد الراحل يوسف اليوسف ينفي أي شعرية عن نتاج البياتي، ووصفه بالجدب واليباس.
كنت قد قرأت شعر البياتي بالجملة، ولم يكن لي موقف سلبي أو إيجابي من شعره، وليس البياتي شاعري المفضل، وكنت أدرك مدى شهرته، وهو من رواد الشعر العربي الحديث، ولم أمِل مع الأصدقاء إلى هذا الإنكار، ولم أساير أهواءهم في ذلك، ولم أعدّ نفسي لكي أكون ناقداً. لكنني قلت مرة مدفوعاً بإحساس غامض وأولي، إنني عندما أقرأ شعر البياتي، أجد في مجمل شعر البياتي شبحاً يطلُّ بين الفينة والأخرى من خَلْف السطور، أرى فيه صورة للمتجوّل القادم من التخوم ومن أطراف المدن، يشبه كلباً أو ذئباً عجوزاً منفرداً، انخلع عن القطيع، وها هو يبحث في الأسواق وشوارع المدن، بنهم، عن أصحاب، وعن تواصل مع العالم، شبح يدخل المدينة فرداً ويسعى ليندمج بالآخرين. صورة الإنسان في محنته، وقلقه في الزمان والمكان والوجود. شبح يظهر ويتوارى، إنه يجعلني أتجاوب مع شعره، ويجعل شعر عبد الوهاب البياتي، في نظري، يؤخذ بالحسبان. غير خال من الطعم أو المعنى كما يقول بعض الأصحاب.
التقيت الشاعر مراراً خلال إقامته في دمشق حتى رحيله، ولم تكن تفارقني صورة ذاك الشبح.
وقلت للأصدقاء: إن هذا الإيحاء شبه الأسطوري، يشكِّل «ميثة» خفية، تتكرر كحالة لاشعورية.
وتفاجأ بعضهم بهذا التدخل، وعدّوه دعاية في غير موضعها وغير مقنعة. آخرون، وعدوا بأن يعيدوا قراءة شعر البياتي ليتأكدوا من صحة ادّعائي، وبعضهم الآخر، طالبني بأن أنقل الفكرة إلى حيِّز الكتابة. ومن جهتي، لم أطوِّر الفكرة ولم أكتبها، وعددت الأمر مجرد تصور ذاتي أو قراءة خاصة تفتقر إلى الدقة. إلا أنني منذ أيام قرأت رأي الناقد إحسان عباس في عبد الوهاب البياتي، ما عزز عندي ذاك التصور الذي مضى عليه زمن طويل. يقول د.إحسان عباس: «إن الشخصية في كل قصيدة للبياتي، هي ذلك «الجوَّاب» القلق الذي لا يجد قراراً حيث رمت به الأقدار»، ويرجع الناقد عباس هذه الظاهرة إلى الإنكليزي «أودن» الذي أغرم بالإنسان المتوحِّد الذي يخرج في رحلة ضرورية غير واضحة المعالم، إلى عالم يشعر نحوه بالعداء.
وعلى هذا يعلّق محيي الدين صبحي بالقول: «مثل هذه الشخصية التي تطوف بلا غاية تمثل ضياع الإنسان الذي اضمحل وجوده في الحضارة الحديثة».
هذا بالإضافة إلى استخدام الأسطورة والقناع في شعر البياتي، وعالم البياتي الشعري عالم درامي صراعي، بين حالتي الإنسان البرومثيوسي، والسيزيفي.
أوراق العشب
حين صدرت قصائد «أوراق العشب» للشاعر الأمريكي وولت ويتمان (1819-1892م)، كتب الفيلسوف الأمريكي «رالف والدو أمرسون» رسالة إلى الشاعر عام (1855م)، جاء فيها: «أنا لست أعمى عن قيمة الموهبة المدهشة في أوراق العشب، وإني أجده أروع ما قدَّمت أمريكا من حكمة وذكاء… لك مني فرح فكرك الحر الشجاع».
جُمِعَ في ديوان أوراق العشب كل قصائد ويتمان، ضمَّت فلسفته الشعرية وطريقته الحرة في التفكير والكتابة وتصوره عن أمريكا التي يحلم بها، أمريكا الصداقة مع نفسها ومع العالم. وأمريكا، كما هي اليوم، تشكل خيانة لحلم الشاعر وولت ويتمان.
أشهر وأطول قصيدة في ديوان «أوراق العشب» هي قصيدة «أغنية نفسي».
ويتمان الشاعر الإنساني الحر المحب للصداقة وللطبيعة وللجسد والذي رأى فيه مكسيم غوركي ولونشارسكي بذور الاشتراكية، هذا الشاعر لا تحبه الثقافة الأمريكية المندمجة مع السياسات الأمريكية، ولا تحتفي به، ويتعرض دائماً للتشويه أو التقليل من أهميته.
الناقد الأمريكي «موريس أندرسن» مؤلف الكتاب الضخم بعنوان: «وولت ويتمان/ حياته وأعماله» ترجمه إلى العربية الأستاذ عارف حذيفة، وصدر عن وزارة الثقافة بدمشق عام (1984م)، يشير فيه إلى الإساءات التي تعرَّض لها ويتمان ليس من بعض الصحفيين الأمريكيين العاديين في منتصف القرن التاسع عشر الذين قابلوا طبعات أوراق العشب بصيحات الاستهزاء لمجرد أن شعر الديوان كان مغايراً للقصائد الغنائية الكلاسيكية والرومانسية التي اعتادوا عليها فحسب، بل تعدّى ذلك إلى نقاد أمريكيين في وقتنا الحاضر، الناقدة الأمريكية «ل. م. كلارك» كرست كتابها «مفهوم وولت ويتمان للإنسان الأمريكي» للبرهنة على أن ويتمان كان بالفعل معادياً للديمقراطية وللإنسان العادي. واجتهد ناقد آخر يدعى «ليسلي فيدلر» بالاشتراك مع آخرين لإقناع قرائه أن مؤلف أوراق العشب، كان في حياته دجَّالاً مخادعاً ليس غير. وحتى يومنا هذا لم تكف الأصوات الرجعية عن حملتها الصلفة والكاذبة على هذا الشاعر المشرق كالضوء، لأنهم يدركون أنه نقيض لهم، وصوت للفقراء والأحرار، والتيار الذي يعبر عنه ويتمان هو التيار بالتأكيد ضد وحشية أمريكا وعدوانيتها. يقول ويتمان في أغنية نفسي:
«أرى نفسي في كل الناس
لا أزيد عليهم، ولا أنقص عنهم حبة شعير
وما أقوله من خير أو شر عن نفسي أقوله عنهم…».

التاريخ: الثلاثاء12-3-2019

رقم العدد : 16929

آخر الأخبار
وزارة الثقافة تطلق احتفالية " الثقافة رسالة حياة" "لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى إطار جامع تكفله الإستراتيجية الوطنية لدعم وتنمية المشاريع "متناهية الصِغَر والصغيرة" طلبتنا العائدون من لبنان يناشدون التربية لحل مشكلتهم مع موقع الوزارة الإلكتروني عناوين الصحف العالمية 24/11/2024 رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من ‏القطاعات الوزير صباغ يلتقي بيدرسون مؤسسات التمويل الأصغر في دائرة الضوء ومقترح لإحداث صندوق وطني لتمويلها في مناقشة قانون حماية المستهلك.. "تجارة حلب": عقوبة السجن غير مقبولة في المخالفات الخفيفة في خامس جلسات "لأجل دمشق نتحاور".. محافظ دمشق: لولا قصور مخطط "ايكوشار" لما ظهرت ١٩ منطقة مخالفات الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص