الملحق الثقافي..علم الدين عبد اللطيف :
أُتيح لي أن أقرأ كتاب الإعلامي ديب علي حسن “ثنائية الثقافة والإعلام من الرسالة إلى الاستلاب”، قرأته بمتعة مضاعفة، فهو أكثر من كتاب، هو رسالة في الثقافة والإعلام، وفي الموقف من قضايا الثقافة، يخاطب العقل أولاً، وينطلق من وجدان المثقف الحر الواعي، ومن وجدانه، وهو الذي يعرف خفايا وخبايا المؤسسة الإعلامية، ويعرف الواقع الثقافي وقضاياه، بحكم عمله في الإعلام متخصصاً بالمسألة الثقافية في صحيفة الثورة السورية، وهو الذي كتب عشرات الكتب التي تتناول القضية الثقافية همّاً وممارسة وتوصيلاً، فيعنون المقالة الأولى: (من الرسالة إلى الاستلاب)، رسالة الإعلام كثقافة أولاً، في مواجهة أطراف لا يريدون للرسالة أن تصل، أو يريدونها أن تصل وفقاً لمصالحهم، أو بأدواتهم، كتسويق المنتج الثقافي وتجاربه مستندة إلى الجهد التصنيعي وحسب، كما يقول (جيريمي ريفكين)، وهي طريقة الرأسمال في تناول القضايا الثقافية والأدبية والإعلامية، في السفر والسياحة، ومدن وحدائق لهو ومرتكز مكرسة للتسلية، والألعاب الرياضية، والعوامل الافتراضية للمجال السايبري، يعرض الكاتب هذه القضايا من موقف لا يقتصر على المشاهدة أو حتى الفهم، بل من موقع الرفض والإدانة بمواجهة الاستلاب العالمي.
قضايا الوطن والإنسان
الكتاب تم الاشتغال عليه بلغة الصحافة، وهذا ما أضفى عليه مزيّتين، الأولى هو سلاسة اللغة الصحفية، وابتعادها عن الأدلجة والتنظير الجاف، وهو الذي يقول: “الكتاب لا يدعي أنه بحث معمق يقدم الرؤى والحلول، فهذه ليست مهمته، مع أنه يشير إلى الكثير من ذلك”.. وتبدو المزية الثانية كأنها تجيب على هذا، فلغة الصحافة تعرف مداراتها، لا تتقعّر ولا تتفلسف، وكانت الحرفية البادية في عرض صحفي يقدم نفسه من موقعه جلية شفافة، ونتج عن ذلك مصداقية الكتابة والكتاب والمشروع، وهو ما يتوخاه الكاتب ويسعى إليه كما أزعم.
الكتاب يتضمن مقالات في الثقافة والإعلام والأدب والسياسة وقضايا الوطن والإنسان، تتصل بالواقع الحي كما هو، وتخاطب العقل، وتثير الأسئلة، وتجيب من موقع المسؤولية الوطنية والأخلاقية والمهنية، وهو في مقدمة الكتاب يعلن موقفه ومنهجه، فلا يماري أو يداري، ولا يهرب أو يوارب، ويضع نفسه مسؤولاً كمواطن ومثقف ووطني، فيقدم المشهد الثقافي علامات ودلائل، “إنني أقرب إلى الإحباط في المشهد الثقافي السوري، لم أقتنع للحظة أن ثمة يداً قد امتدت لتفعل شيئاً ذا قيمة، المشهد مؤلم ومرّ وقاسٍ، ويكاد نجعلنا نصرخ لماذا كل هذا الجحود، منشآت مشيدات وبنى حقيقة لفعل ثقافي، ولكن…..”.
وإذا كانت القضايا المطروحة في الكتاب، تبدو معروفة ومعلنة من قبل المثقفين والأدباء، فإن الكتاب يمضي إلى مزيدٍ من توليد الأسئلة، بشجاعة ملحوظة، وبوعي الكاتب الحر الذي تؤرقه مسؤوليته، فيتابع ويناقش ويستقصي، ويستحضر ليس المثقفين فقط إلى دائرة السجال، بل المواطن العادي، فيكون صوته ومنبره، “المواطن يبحث عن صوته في هذا الإعلام، أين هو، مكانته، لماذا لا يصل صوته إلى من يهمه الأمر، وإذا ما وصل، لماذا لا يحركون ساكناً؟”.
مشروع التنوير
ويمضي الكتاب في طرح القضايا الثقافية “لماذا أخفق مشروع التنوير وغاب دور المثقف؟”.. فيناقش المسألة بأبعادها التاريخية والوطنية، ولا يخشى القول: “نعم.. هو المال، ثقافة وفكراً وإعلاماً، بلا إنفاق لا يمكن أن تكون.. الحكومة.. أي حكومة، لا تنفق على هذه الأقانيم عليها ألا تتوقع الكثير منها”.. وتمضي الأسئلة.. “هل يستعيد الأدب دوره الريادي في بناء الوعي؟” منطلقاً من نداء الأديب “جلال فاروق الشريف منذ عقود طويلة.. “إن الأدب كان مسؤولاً”.. ويستخلص السؤال.. “لماذا تيبسنا؟”.
الهويات
وفي سبيل المضي بالإضاءة.. يتحدث عن الهويات المتبدلة، وعلاقتها بالوعي، فيقارن ويساجل، ويستحضر “النخب التائهة”.. وعودتها “المضللة”.. ومراوحتها بين “التكلس والتقاعد من الدور”، و”فصام المثقفين”.. ليصل إلى نتيجة حاسمة “صورة ليست وردية”، لكن الكاتب يستجمع شجاعته ليصل إلى طرح “نحو ميثاق شرف ثقافي”، يعلن ضرورة فصل السياسة عن الثقافة، نتيجة تغول السياسي على الثقافي واقعاً ملموساً، وانقلاب السياسي على منبته الثقافي بعدما يتسنّم مسؤولية سياسية، وبمرارةٍ يعلن “أظن أنه من الأفضل للثقافة.. سياسي يلهو بها.. يحبها.. يهواها.. خير من مثقف يحبو ويهرول نحو موقع سياسي”.. وميثاق الشرف الثقافي الذي يقاربه الكاتب هو أن تبادر وزارة الثقافة.. فتأخذ دورها راعية للثقافة والمثقفين، بعيداً عن كل الحسابات الأخرى، وذلك بالدعوة إلى مؤتمر موسع، يضع المثقفين ومؤسستهم الثقافية. وجهات الإشراف السياسية أمام مسؤوليتهم التاريخية في صون الثقافة والفكر والأدب، ودعم المؤسسة الثقافية كمنتجة للثقافة وناشرة لها، عبر تبني مقولات يحددها الكاتب.. “الصحافة مسؤولية اجتماعية ورسالة وطنية”، ويمضي في جملة شروط لازمة وواجبة، فيعدد مواد الميثاق ويحددها، ليصل إلى “ميثاق الإعلام العربي”.. منطلقاته.. المبادئ والأهداف…
خاتمة
الكاتب الأستاذ ديب يمضي عبر مواضيع مهمة في الكتاب.. منطلقاً من تجربته في الإعلام، فيناقش تجارب خدمة اللغة العربية، وجدلية الثقافة والإعلام.. من يحمل الآخر؟.. ويعرج تفصيلاً.. في الدعم الغائب.. والمشهد المخجل، “هل يعقل أن تتحول معظم برامجنا إلى استضافة فنانين؟.. المسألة منذ عقود من الزمن، كله دراما.. كله تمثيل.. ولست ضد ذلك.. لكن متى كانت الدراما وكان الممثلون الجهة الصانعة للثقافة والمعرفة وحدهم؟”.. ويناقش الإعلام بوصفه منجَزاً ثقافياً.. ومنجِزاً ثقافياً.. إلى الخطاب الإعلامي، ورهانات ومفارقات التواصل.. إلى مقاربة الخطاب الإعلامي السوري.. الواقع والآفاق، ويقرر.. “الإعلام أخلاق”.. عبر مناقشة مأسسة الإعلام، ويصل بعد تقصٍّ واسع إلى “ميديا الاستلاب”.. عن حداثة التقانة وجمود العقل، وثقافة الألقاب.. واستشراء هذه الظاهرة، فيعلن.. “يُغتال تاريخنا”.. و”اختراق دائم”.
(ثنائية الثقافة والإعلام).. كتاب معلّم.. كاتبه الأستاذ ديب علي حسن، كان شجاعاً ومسؤولاً، في ثقافته ووعيه.. وفي موقفه من قضايا الثقافة والإعلام. وقد صدر عن وزارة الثقافة- الهيئة العامة للكتاب-2018
التاريخ: الثلاثاء12-3-2019
رقم العدد : 16929
.