أعادت الجريمة الإرهابية المروعة التي ارتكبها قبل أيام السفاح الأسترالي برينتون تارانت بحق مصلين أبرياء في مسجدين بمدينة كرايستشيرش النيوزيلاندية، النقاش والجدل مجدداً حول من يتحمل المسؤولية الحقيقية عن تفشي ثقافة الكراهية بين الأمم والشعوب، بحيث بات سفك دماء الأبرياء في أي مكان من هذا العالم أقرب إلى تسلية أو لعبة كمبيوتر يمارسها البعض دون أدنى شعور بالإنسانية أو تأنيب الضمير، كما وضعت العالم مجدداً أمام مخاطر انتشار هذا النمط من الجرائم الإرهابية وما يمكن أن تستجره من ردات فعل معاكسة من البيئة المستهدفة لا تقل عنها شدة وخطورة، في ظلّ وجود جماعات متطرفة من كل الأيديولوجيات والأديان والاتجاهات جاهزة و مهيأة فطرياً لا شعورياً لتلقف هذه الجريمة من أجل تبرير ما ترتكبه من أفعال شنيعة وجرائم وانتهاكات ضد الآخر المختلف عنها.
ورغم أن هذه الجريمة البشعة التي هزت الضمير العالمي وأدت إلى إزهاق أرواح العشرات من المدنيين، قد جوبهت ببيانات التنديد والاستنكار والإدانة والرفض على نطاق واسع حول العالم حتى من دول وحكومات تمارس الإرهاب وترعاه، إلا أن هذه الإدانات لا تعني بالضرورة أن العالم جاهز لاتخاذ التدابير المناسبة والوقائية لمنع وقوع مثل هذه الجرائم في أماكن أخرى، ولا أحد يستطيع أن يضمن عدم تكررها حتى في نفس المدينة التي شهدتها، لأن حالة التناقض بين الحضارات والشعوب والأديان مستمرة على وتيرتها العالية، وتغذيها الحكومات والدول الغربية بالاتجاهين عبر المزيد من صب الزيت على النار، سواء عبر خطاب إعلامي يشجع على العنف والكراهية وتالياً عبر استخدام القوة الغاشمة كأسلوب مفضل لتحقيق المصالح والحصول على المكاسب، أم عبر الاستثمار في جماعات أصولية إرهابية لضرب استقرار الدول والمجتمعات الرافضة لسياسات الغرب الاستعمارية كما يحدث في منطقتنا منذ عقود طويلة.
لا شك أن جريمة كرايستشيرش قد ألقت الضوء على بعض الحقائق التي يحاول الإعلام الغربي تغييبها وطمسها باستمرار، وهي أن الارهاب لا دين له ولا لون، وأن مجتمع البيض لا يقلّ إرهاباً وتطرفاً وعنفاً عن الجماعات الإرهابية التي أسسها ورعاها في منطقتنا مثل تنظيم الإخوان المسلمين والحركة الوهابية وتنظيمي القاعدة وداعش والكثير من التسميات التي عرفتها منطقتنا في السنوات الماضية، ممن يستخدمها الغرب للترويج لمصطلح (الإسلامو فوبيا) وما يعنيه ذلك من حصر الإرهاب بالعرب والمسلمين لتبرير استهدافهم على النمط الذي يجري منذ سنوات طويلة، والتعتيم على إرهاب الدولة المنظم الذي تمارسه الولايات المتحدة وبعض حلفائها وفي طليعتهم الكيان الصهيوني الذي يشكل إنشاؤه في قلب الوطن العربي وعلى حساب مصالح شعوب المنطقة وأمنها واستقرارها ووحدتها أكبر مشجع ومحرض على ثقافة الكراهية والعنف.
فلو حاولنا البحث عن المستفيد الأكبر من انتشار هذه الثقافة الشاذة الرائجة هذه الأيام، فلن نحتاج إلى كثير عناء لمعرفة الحقيقة، فالولايات المتحدة الأميركية ومعها العديد من الدول الغربية تفضل أسلوب البلطجة والقهر والاحتلال في التعاطي مع الدول والشعوب الأخرى لتحقيق مصالحها الاستعمارية ومصالح شركاتها الجشعة المنتجة للسلاح، وهو ما تسبب بحربين عالميتين مدمرتين وعشرات الحروب الصغيرة في مختلف أرجاء الكرة الأرضية، وأسهم في صعود تيارات يمينية متطرفة تعتمد العنف كأسلوب وحيد في المواجهة وفي التعاطي مع الآخرين لتحقيق المكاسب السياسية، وتاريخياً تعتبر بريطانيا من أكثر الدول الاستعمارية إنتاجاً للحركات المتطرفة والعنفية في منطقتنا وغيرها من بقاع العالم، تليها الولايات المتحدة الأميركية التي أشرفت بنفسها في السنوات الماضية على إنتاج أبشع التنظيمات الإرهابية التي روعت العالم بجرائمها وأفعالها القذرة والمقصود هنا (تنظيم داعش) بالنظر لنوعية الإرهابيين والقتلة المتمرسين والمأجورين الذي يضمهم في صفوفه، وهم القادمون في معظمهم من بيئات وثقافات غربية غريبة عن المنطقة وعن ثقافة التسامح والمحبة السائدة فيها.
وعند الحديث عن ثقافة العنف والكراهية تبرز خطابات المسؤولين الغربيين وفي طليعتهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب وعدد من أركان إدارته وكذلك خطابات مسؤولي الكيان الصهيوني الذين لا يتوقفون عن تحريض وتشجيع مستوطنيهم وجنودهم لارتكاب مختلف الانتهاكات المشينة بحق الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته، في حين تبرز بريطانيا مثلاً كأكبر معقل لقادة الفكر التكفيري (الإسلاموي) حول العالم، إذ كثيراً ما يطلّ قادة هذا الفكر ومنظروه من شاشات بريطانية لبث أفكارهم ومعتقداتهم العدائية، وثمة الكثير من المعلومات المتقاطعة عن تمويل السلطات البريطانية لعشرات الأقنية الفضائية الموجهة إلى منطقتنا حيث لا عمل لها سوى بث سمومها الطائفية والمذهبية وخطابات الكراهية والفتنة بين أبناء الأمة الواحدة، والتحريض على العنف والقتل في إطار سياسة ممنهجة لجعل العالم بؤرة نزاع وفوضى وحروب لا تتوقف من أجل تبرير سياسة التدخل الغربي في شؤون الدول والشعوب بحجج وذرائع جاهزة.
فمثلاً حين تتداعى دول غربية وعلى رأسها بريطانيا لتصنيف حركات التحرر الوطنية المقاومة للاحتلال ـ حزب الله مثالاً ـ كمنظمات إرهابية، في الوقت الذي تبرر فيه جرائم الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته وتقدم له كل أشكال الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي، فمن شأن ذلك أن يخلق مشاعر مناهضة لهذه الدولة ولسياساتها ولمواطنيها كونها تقف في صف المعتدي وتشجعه على المزيد من العدوان والطغيان ومصادرة حقوق المستضعفين والمظلومين، وحين تقوم الولايات المتحدة الأميركية بشن حروبها المدمرة تحت ذرائع كاذبة وواهية كغزوها للعراق وأفغانستان وتدخلها في سورية وليبيا واليمن وغيرها، وتطبق سياسة الحصار والعقوبات والتهديد ضد إيران وفنزويلا وكوريا الديمقراطية ودول أخرى في محاولة لفرض إملاءاتها وشروطها السياسية بالقوة والبلطجة، فلا أحد يتوقع أن تكون ردة الفعل المعاكسة سوى الإحساس بالظلم والقهر والاضطهاد الذي عادة ما يكون مبرراً لظهور ثقافة الكراهية والرغبة بالانتقام على نطاق واسع.
لا يختلف مراقبان في أن جريمة نيوزيلاندا والعديد من الجرائم التي سبقتها والتي يمكن أن تليها وتتخذ منها ذريعة، هي نتاج ثقافة مجتمعية غربية عنصرية حاقدة، مبنية بالأساس على سياسات استعمارية تصرّ على اختصار الإرهاب بالحالة (الإسلاموية) التي أنتجتها كما ذكرنا ظروف من القهر والظلم والاحتلال، وتتجاهل أصحاب الفكر الغربي المتطرف من أتباع الفاشية والنازية والصهيونية والامبريالية الذين ألحقوا بالبشرية أفدح الخسائر والأضرار، ويبدو أن هذه التيارات اليمينية المتعصبة لها أتباع كثر يطلون من حين لآخر ويعبرون عن أنفسهم بشكل عملي كلما سنحت لهم الفرصة.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الأربعاء 20-3-2019
الرقم: 16936