الملحق الثقافي..حاتم حميد محسن
القانون الأخلاقي لكانط (1804-1724) هو نظرية في الأخلاق ترتكز على مفهوم الواجب والعقل. كانط يسلط الضوء على أهمية القدرة العقلية للإنسان وقابليته على التفكير المنطقي المنفصل عن ظروفه الخاصة أو أفضلياته التي تميزه عن المخلوقات الأخرى. هذه الفكرة عبّر عنها كانط في عمله العظيم نقد العقل الخالص 1781 ونقد العقل التطبيقي 1788. يؤكد كانط على أن العقل يربط الإنسان إلى الإنسان طالما أنه قوة فكرية فطرية توجد بدرجة ما من المساواة بين كل الناس. وهكذا فإن مثل هذا العقل يمكّن كل فرد من حل مشاكله الخاصة بطريقة مقبولة. يرى كانط أن المرء عبر استعماله العقل سيجد الأجوبة للألغاز الأخلاقية والتي تكون صحيحة لكل فرد. قانون كانط الأخلاقي مستقل عن الثيولوجيا، أي بمعنى أنه قانون أخلاقي علماني.
تعريف المصطلحات
يعرّف كانط المصطلحات التالية:
التحليلي analytic وهو تعبير يكون فيه الافتراض متضمن في الموضوع، وبهذا يكون صحيح بالضرورة.
القبلي priori وفيه يكون التبرير والحقيقة مستقلين عن التجربة.
synthetic وهو تعبير يكون صحيحاً بمقدار ما يرتبط معناه بالعالم، وفيه الافتراض غير متضمن في التعبير.
posterior وفيه الحقيقة والتبرير يرتكزان على التجربة.
أعلن كانط أن كل بيان أو تعبير هو إما «تحليلي قبلي» priori analytic أو «استنتاج مبني على التجربة posterior synthetic. غير أن ما هو غير عادي في قانون كانط الأخلاقي هو أنه يؤكد على أن بيانات القانون الأخلاقي هي افتراضات قبلية، بمعنى مستقلة عن التجربة لكنها ليست صحيحة بالضرورة. كانط في كتابه (أسس ميتافيزيقا الأخلاق 1783) يقول إنه إذا أريد للقانون الأخلاقي أن يكون ملزماً دون شروط، فيجب أن يحتوي دون شروط على شيء خير، بمعنى شيء خير بذاته وفي أعلى درجات الخيرية. كانط يرفض مفاهيم مثل «موهبة العقل» أو «هدايا الحظ» لأنها ليست خيرة في باطنها ويمكن أن تُستعمل على نحو سيء. بدلاً من ذلك يقترح كانط بأنه «من المستحيل تصور أي شيء في العالم أو في خارجه، واعتباره خيراً بدون متطلبات إلاّ الرغبة الخيرة».
اولاً، من المهم ملاحظة أن كانط حين يتحدث عن الرغبة الخيرة، فهو لا يشير إلى شيء جيد بسبب النتائج المتحصلة منه (نتائج الموقف مثلما تؤكد الأفكار النفعية). يجادل كانط أن هذا التعريف للرغبة الخيرة يعني أنه إذا كانت القيمة الأخلاقية معتمدة على النتائج، فهي لم تعد قيمة غير مشروطة، لأننا سنحكم على الفعل فقط كوسيلة لغاية. غير أن كانط لا يشير إلى بداهة المرء في الخطأ والصواب، لأنه يرى أن الميول لا تستند على المنطق أو العقل، ولذلك فهي ليست صحيحة أخلاقياً بذاتها. ومن هنا يفترض كانط أن الفعل يكون أخلاقياً عندما يكون الحافز الذي خلفه خيراً، أي أن امتلاك نية صحيحة هو الذي يجعل الرغبة الخيرة خيرة.
يوضح كانط بأن إنجاز المرء للواجب لا يستلزم خدمة مصالحه الخاصة. وبهذا يجب أن يكون المرء نزيهاً، لأن ذلك هو الشيء الصحيح الذي يجب القيام به، ولا يتوجب تكريم المرء بسبب كونه نزيهاً، لأن النزاهة سيتم تصورها كوسيلة لغاية وبالتالي ليست خيرة بذاتها. كذلك لا يجب على المرء التصرف بناء على البداهة أو وفق ما يأتي إليه طبيعياً، لأن الحافز المخفي لايزال موجوداً، بمعنى، أن يقوم المرء بما يتمتع به بدلاً من القيام بما يمليه عليه واجبه. ولذلك، يجب على المرء أن يقوم بما هو جيد أخلاقياً لأنه جيد وليس لأي سب آخر.
الجزء الثاني من قانون كانط الأخلاقي هو مفهومه للضرورة الحتمية categorical imperative وهي أخلاق غير مشروطة وملزمة في جميع الظروف والأحوال. لكي يكون الفعل صحيحاً يجب أن يطيع قاعدة معينة أو مبدأ معيناً بصرف النظر عن الميول والنتائج، ويجب أن يكون ذا تطبيق عالمي فيكون ملائماً لكل فرد بصرف النظر عن موقفه، ويجب أن ينسجم مع عقل الإنسان. وبهذا يمكن تعريف الضرورة الحتمية بقانون يعترف به إنسان الرغبة الخيرة بوعي أو بدونه عندما يطيع واجبه. الضرورة الحتمية يتم إطاعتها لأن ما تأمر به هو مقبول باعتباره خيراً بذاته. يعطي كانط ثلاثة تعريفات للضرورة الحتمية.
أولاً: صيغة قانون الطبيعة
الذي يقول «تصرّف كما لو أن القاعدة في فعلك تصبح من خلال رغبتك قانوناً عالمياً للطبيعة». هذا يمكن فهمه بالقول إنه عندما تتصرف أنت بأية طريقة، فأنت يجب أن تتعامل مع ذلك المبدأ الذي يجسّد فعلك كما لو كان قانوناً لتجسيد جميع السلوكيات الأخلاقية، أي، أنت تضع الطريقة لتتصرف بناء على تفكيرك المنطقي. كذلك، هذا التعريف الأول يجسد فكرة أن المرء يجب أن يكون قادراً على تعميم الفعل الأخلاقي لكي يكون مطلقاً ورغبة حقيقية خيرة. غير أنه من المهم ملاحظة أن كانط يخبرنا كيف نكون أخلاقيين (يخبرنا المبادئ لصياغة سلوكنا) ولا يقول لنا ماذا نفعل.
ثانياً: صيغة الغاية في ذاتها
وهو «تصرّف بطريقة فيها دائماً تتعامل مع الإنسانية سواء من خلال شخصك أو الآخرين ليس كوسيلة وإنما دائماً كغاية». هذا يعني أن الناس يجب أن يكونوا غاية فقط. فمثلاً، في علاقة المرء يجب ألا يستعمل شخصاً آخر كوسيلة (مثل النقود، المكانة، الجنس، مهما كانت المحصلة منه). بدلاً من ذلك أنت يجب أن تكون لديك علاقة مع شخص ما بسبب ذاته وأنه يجب التعامل معه كقيمة بذاته. وهكذا يرى كانط من غير الأخلاقي أن تكون صديقاً لشخص ما لأجل المكافأة والأنانية.
ثالثاً: صيغة مملكة الغايات
ويؤكد «تصرّف كما لو كنت من خلال مبادئك كصانع للقانون عضواً في مملكة الغايات». هذا التعريف الأخير يشير إلى الانضباط الذاتي والسلوك المسؤول بسبب الرغبة الداخلية الخيرة والعمل بناء عليها. من هذه التعاريف يمكن الاستنتاج أن هناك تأكيداً كبيراً على العالمية universability. يؤكد كانط لكي نفحص إن كان الفعل أخلاقياً يجب أن نكون قادرين على تطبيقه باستمرار وبمنطقية على بقية العالم.
مظاهر القوة
إن أهمية قانون كانط الأخلاقي تعاظمت بمرور الزمن بدلاً من أن تنقص، لأنه وبدون شك احتفظت مختلف خصائص النظرية بجاذبيتها. وما هو أكثر أهمية هو وجوب ملاحظة قدرة النظرية على حساب العدالة بشكل جيد. إنها قادرة على تصحيح الرؤية النفعية بأن الفوائد الكبيرة يمكنها تبرير عقوبة البريء، لأن القيمة الأخلاقية للفعل تأتي من الصلاحية الباطنية للفعل. عدالة الفرد يتم حمايتها بالسمة العالمية والموضوعية للضرورة الحتمية التي تفرض الواجبات علينا جميعاً. كذلك، النظرية تتجنب كون الناس أنانيين، لأن الفعل يكون أخلاقياً فقط عندما يطبّق على كل شخص، وبهذا لا يمكنها تفضيل الفرد.
إن قوة القانون الأخلاقي لكانط هي في كونه يعرّف الإنسان ككائن ذي استحقاق داخلي ومخلوق عقلاني وأنه يقاوم كل استخدام له كمجرد وسيلة لغاية يتم استغلاله لسعادة الآخرين. لذلك فإن الإنسان يُحترم بـ «الشعور بالإنسانية» الذي يسيطر على كامل فلسفة كانط. هذا المظهر للنظرية يعترف بالقيمة الداخلية للفرد، وهو ما يجعل النظرية تنال القبول العام.
لقد نال كانط الإعجاب لتمييزه بين الواجب والميول. بلا شك نحن جميعاً قادرون ونميل عادة لعمل قرارات أخلاقية لمصلحة أنفسنا وأصدقائنا. لذلك نجح كانط في منع الأفراد من العمل وفق افتراض أنهم يعرفون ما هو خير لأنفسهم وأزال المصلحة الذاتية والمتعة، لأن الشيء يكون صحيحاً فقط عندما يمكن تعميمه. القوة العظمى للعمومية تعني أن الإنسان يصبح أقل تأكيداً على الذات وأكثر اعترافاً بحقوق الآخرين.
قانون كانط الأخلاقي مرغوب أيضاً وقوي لأنه نظراً لرؤيته العلمانية، فهو له المقدرة لينال رضا كل شخص سواء أكان متديناً أم ملحداً. لذلك فإن مبادئه عالمية ومتحررة الذهن، ولهذا فإن كانط نجح في خلق نظرية استطاع بها توضيح الأخلاق بمنطقية عالية.
انتقادات النظرية
لكن نظرية كانط تعرضت للنقد في ادّعائها أن الناس الأخلاقيين هم الذين يؤسسون حياتهم فقط على طاعة الأحكام المتولدة من الضرورات الحتمية. هذا يشير إلى أن المرء يجب أيضاً أن يطيع تلك القواعد التي ليس له تجاهها أي التزامات أخلاقية. يمكن الجدال أنه إذا لم يتفق المرء على أن شيئاً ما صحيحاً بسبب نقص الميول أو العاطفة، فهل أن فعله صائب أخلاقياً؟ بمعنى، هل الفرد اختُزل فقط إلى الالتزام بالقواعد، أم أنه لايزال أخلاقياً فقط لأنه ينفذ واجباته؟
إن نظرية كانط يمكن نقدها لسماحها بتعميم قواعد قليلة الأهمية بالارتكاز على جميع تعريفات الضرورة الحتمية.
أولاً، هذه النظرية لها القدرة لقبول القواعد التي ليست جيدة ولا سيئة، وبهذا فهي محايدة أخلاقياً وحيث عدد قليل من الناس يعتبرها ملزمة أخلاقياً.
ثانياً، الضرورة الحتمية تسمح أيضاً بالقواعد التي هي عالية الخصوصية والتي لا تفيد أي شخص ما عدا الفرد. ومن هنا، لا يصح الجدال بأن الفرد الأخلاقي هو الذي يتصرف طبقاً للضرورة الحتمية. وهكذا، من الممكن جداً الوصول إلى قواعد تعتبرها الغالبية إما تفضيلية أو ليس لها أية أهمية أخلاقية. ولذلك يمكن الاستنتاج أن مجرد تعميم القاعدة لا يعد كافياً لضمان أنها ستكون جيدة أخلاقياً أو حتى أخلاقية.
واستجابة لتلك الانتقادات يعرض كانط نوعاً من الاختبار التطبيقي، فيه يمكن لنا أن نرفض تلك القواعد التي عند تعميمها تنتج وضعاً قابلاً للرفض من جميع الناس العقلانيين. هذا قد ينجح لأن الناس يجب أن يرفضوا ما هو مخالف للأهداف التي يمتلكها جميع الناس العقلانيين. نقد آخر لكانط هو أنه يفشل في الاعتراف بأن كل الناس مختلفون في مستوياتهم من التسامح والاعتدال. فمثلاً، من يقول إن السادي لا يريد تعميم السادية؟ كذلك، اللصوص قد يرغبون في تعميم السرقة حتى وإن جعل ذلك ممتلكاتهم في خطر.
في الحقيقة يمكن الجدال أن هناك العديد من الناس يتفقون بأنهم مثلما يتجاهلون الآخرين فهم بدورهم أيضاً سيتم تجاهلهم. هذه الفكرة تنجح طبقاً للفرد الذي يدرك أن الحياة تنافسية، ويقبل فرصة الفشل في البحث عن النجاح. ومع أن كانط يمكنه الجدال أن مثل هذه الأفكار ينقصها العقل، إنه يمكن أيضاً افتراض أن الإنسان من هذا النوع الذي يقبل بأن الآخرين قد يعاملونه بسوء عندما يعاملهم هو ليس عقلانياً أبداً.
يبدو أن الشيء الذي يتجاهله كانط هو مشكلته في استبعاد الاستثناءات. في تناقضات كانط في الطبيعة، هو يؤكد بأن قول الكذب ومخالفة الوعود هما دائماً خاطئان لأنهما لا يمكن تعميمهما باستمرار، وبهذا لا يمكن أبداً للمرء الكذب أو مخالفة الوعد وبدون استثناءات. لكن هناك أمثلة تقود فيها مثل هذه المفاهيم إلى مآزق خطيرة عندما تتصادم الواجبات. لننظر في أن شخصاً ما يعد صديقاً له بأنه سيخفيه عن المجرم، ولكن لاحقاً يطلب منه المجرم الكشف عن المكان الذي يختبئ فيه الصديق. قول الحقيقة سيكون كسراً للوعد، ولكن الإيفاء بالوعد يعني الكذب.
قانون كانط الأخلاقي لا يوفر لنا جواباً لمثل هذه المواقف، ولذلك فإن النظرية تضعف لأنها تفشل في مساعدتنا في جميع المواقف. ولذلك عندما نصل إلى استنتاج نستطيع القول إن هناك مظاهر قوة ومظاهر ضعف واضحة في قانون كانط الأخلاقي. لكن من الصواب القول إن مظاهر القوة تتفوق على جوانب الضعف في النظرية. من الواضح أن نظرية كانط أصبحت وبمرور الزمن أكثر شعبية وقبولاً، وهذا يثبت مدى نجاح كانط حتى مع وجود تلك الانتقادات. يمكن للمرء أن يسأل نفسه إن كان هناك أي قانون أخلاقي يخلو من الانتقادات.
التاريخ: الثلاثاء26-3-2019
رقم العدد : 16940