تكشف الوقائع كل يوم جديدا في مجال التنقيب والبحث الأثري الذي تقوم به بعثات سورية أو غربية تكشف عن عمق تجذر السوري بفن الإبداع, الذي سجل ودون الأحداث وعبر عن توق السوري مذ وعى حركة التاريخ للخلود من خلال الفن والإبداع بغض النظر عن أدواته المستخدمة.
وتشير المعطيات إلى أن السوري القديم كان مؤسسا حقيقيا ليس للمدن والزراعة بل لكثير من الفنون ومنها الجداريات التي بدأ يرسمها داخل الكهوف والمغر وذلك حرصا على خلودها وبقائها رسالة للأجيال القادمة.
وقد أحسن فعلا بذلك.. الجداريات التي تكشفت الى الآن تدل على تطور الفن, صحيح أنه بدأ طفوليا وسخر كل ما حوله للإنجاز وكانت موجودات الطبيعة من حوله رموزا لجدارياته ولاسيما الكائنات التي تدل على العنفوان مثل:النسر الذي نجده في معظم هذه الأعمال.
وتشير الدراسات البحثية إلى العديد من المواقع التي زخرت بها الجداريات، وقد اعتبر إنسان المريبط أول من عرف الرموز والتجريد وخاصة الرسومات، وتعد هذه الرسومات من أقدم الآثار التي تم اكتشافها في منطقة الشرق القديم.
وهذا موقع آخر هو تل بقرص «جنوب مدينة دير الزور»، ويعتبر أول موقع استعمل الكلس فيه بإكساءات أرضية وجدارية، حيث تم العثور على رسومات جدارية تعود الى الألف الثامن ق.م 8350-7350 ق.م, وهي عبارة عن رسومات تضم صفوفا من الطيور ذات القوائم الطويلة وقد تكون اللقلق، وقد استخدم اللون الاحمر (المغرة) وتعتبر هذه الرسومات من أقدم الرسومات التي عثر عليها في منطقة الشرق القديم حسب رأي علماء الآثار.
وفي موقع تل حالولة في محافظة حلب بالقرب من منبج، حيث تنقب فيه بعثة إسبانية برئاسة ميكايل موليست Miquel Molist، حيث اكتشف في المربع (4E) في أرضية أحد البيوت أرضية من الجص (plaster) رسمت باللون الأحمر وهي عبارة عن نسوة بلغ عددها 23, ويصور في المشهد شيئا من الطقوس، وقد وجدت هذه الرسوم عكس ماهو معتاد كما أسلفنا، ولكن لماذا لم توجد على الجدران؟ ومازالت الدراسات مستمرة، ومن خلال المقارنة مع شاتال هيوك وأم الدباغية في العراق وبقرص في سورية، نرى تقاربا واردا في الفترة الزمنية بينهما.
ونصل إلى موقع تل الرقاي شمال شرق سورية فقد تم العثور على قطع صغيرة في موسم 1989، حيث نرى بقايا جسم شخص واقف وقفة غير نظامية كأنه سيجلس، ولا نرى منه سوى جسمه من الوسط عدا الرأس والرجلين. وفي تل ممباقة في منطقة الفرات الأوسط، فقد عثر على أحد الجدران رسوم جدارية رسمت باللونين الأسود والأحمر، وعلى جص أبيض شخصان متواجهان في حالة الوقوف، وعيونهما كبيرتان.
وفي أحدث الدراسات التي صدرت يقدم كتاب الرسوم الجدارية في مرحلة ما قبل التاريخ في سورية لمؤلفه دكتور غطفان حبيب يقدم حصيلة مهمة جدا لهذه الجداريات وجمالياتها الفنية.
ومن الماضي إلى اليوم مازال السوري يبدع هذا اللون من الكهف إلى النور والصخور العالية كما في جدارية برمانة المشايخ التي تحتفي بعظماء سوريين وغيرها من الجداريات التي تعبر عن رفعة وسمو السوري.. الجداريات فن سوري بامتياز ولابد من دراسته جماليا وثقافيا وليس بمنهج أحادي جاف يؤرخ محايدا..إنه فن ينبض بدم عمره آلاف السنين لكنه مازال شابا طافحا بلون الحياة.
Yomn.abbas@gmail.com
يمن سليمان عباس
التاريخ: الجمعة 3-5-2019
الرقم: 16970