الحنين بألوانه عالم غني بذكريات، تفرض حضورها على أرواحنا، فتأخذنا بشكل أو بآخر إلى حقائق متنوعة وشواهد كثيرة، خاصة عندما ترتبط بهموم الوطن، وكانت سورية دائماً محط أنظار الطامعين، فكان تاريخها أيضاً محطات خالدة من وقفات تحدٍ وصمود، جسدت السد المنيع الذي يصد أعداءها، وعندما تنساب تلك الذكريات، لا بد أنها قادرة على استحضار الوقائع الواحدة تلو الأخرى جنباً إلى جنب مع الصفحات المشرقة لذاك التاريخ. وقد تصدت الكثير من الأعمال الفنية الجادة لهذه المسؤولية فنقلتها بأمانة وصدق، وصورت بدقة التاريخ البهي لسورية، التي واجهت فيه كل معتد حاول النيل منها.
من تلك الأعمال الفيلم الروائي الطويل (حنين الذاكرة) الذي أطلقته المؤسسة العامة للسينما مؤخراً، العمل من إعداد وسيناريو سامر محمد إسماعيل، وإخراج مجموعة من الشباب المخرجين الذين تعاقبوا على الإخراج كل مرحلة على حدة، فكانت تجربة متميزة أيضاً من الناحية الفنية والتقنية، حيث جمعت بين تفاصيلها خبرات متنوعة، وحلولاً فنية، وفضاءات مختلفة، كما الأساليب العديدة والتي من شأنها الإشارة إلى إمكانيات المبدع السوري وآفاقه المعطاءة، والتي يمكنها أن تعبر عن مفهوم واحد وفكرة واحدة بعشرات الطرق والمدارس الفنية، والتي نهلت جمعيها من حب الوطن، كل ذلك وضع الفيلم في حالة من الخصوصية الإبداعية المتألقة، حيث حلق بمجرياته المتتالية بشكل خلاق، عبر أجواء مختلفة شكلاً ومتشابهة مضموناً وروحاً.
اجتمعت في عوالم الفيلم أحداث ووقائع وحقائق سجلها التاريخ، وعرف تفاصيلها كل وطني حفظ في وجدانه وروحه انتصارات وطننا على الخذلان والمؤامرة، وذلك وفق أسلوب سينمائي جديد، اجتمع لصياغته مجموعة من المبدعين الشباب لكل منهم إبداعه الخاص الذي طوعه بمرونة، كي يتكامل مع زميله في التجربة، فأكثر ما ميز العمل وجود تجربة إخراجية مشتركة، كانت جديدة نسبياً، فمنذ زمن طويل، لم تعتمد التجربة الإخراجية الجماعية في أفلام المؤسسة العامة للسينما، من هنا فإن الشكل الفني لعب دوره المهم في التحليق والتنقل ضمن عوالم مختلفة ومتنوعة، لتعود مجتمعة عند تقديسها لأرض الوطن، فامتلكت التجربة لونها وبصمتها لكن في إطار من التكامل الفني، خصوصاً أنه لكل من المخرجين الشباب على حدة عالم خاص وتفاصيل فنية، اختصت بمرحلة ما من المراحل المتعاقبة التي مرت على تاريخ سورية، وما تعرضت له من هجمات ومؤامرات وعدوان، وكانت دائماً مسلحة بالإرادة الحديدية، التي تتصدى لأصعب الظروف.
بدءاً من نكسة حزيران التي نزحت بها تلك الأسرة من الجولان، وبدأت حياتها من جديد في حي الأمين بدمشق القديمة، وقد رافقها الفيلم عبر مسيرتها، فحملت حياتها وحياة جيرانها الكثير من الشواهد عن فترات عصيبة عاشتها سورية وعلى مدى عقود متتالية، صورت النزوح، وفترة حرب الخليج، وصولاً إلى الفترة التي تعرضت فيها سورية لحروب إرهابية وفكر متطرف، حاول النخر في نسيجها، ودفعت ثمنها غالياً من التضحيات والدماء، لتبقى سورية منيعة على المؤامرة في كل حين، فتمكنت من الانتصار على الإرهاب وفكره الأسود.
قدَّم الفيلم العديد من المراحل التي بدأها الفنان يزن أنزور بإخراج المرحلة الأولى، عندما احتل المغتصب الإسرائيلي مدينة القنيطرة، كما مرَّ الفيلم على مرحلة تحريرها في حرب تشرين التحريرية، وبعدها تابع علي الماغوط، ثم سيمون صفية، ثم كوثر معرواي، فكان لكل منهم أسلوبه المختلف الذي تلاقى مع الآخر عند الجانب الوطني، وحب الوطن، والتمسك بالانتماء، كما التمجيد للإرادة الصلبة، التي تمسكت بكرامة الوطن، وقد استمرت فترة العمل الزمنية على عقود طويلة من تاريخ سورية بما فيها من محطات وطنية ظهرت فيها الإرادة التي لا تلين.
آنا عزيز الخضر
التاريخ: الاثنين 13-5-2019
الرقم: 16976