ملحق ثقافي:
يمهد روبرت يونغ لكتابه هذا “ما بعد الكولونيالية” بمقدمة ثمينة، يلقي فيها الضوء على كفاح العالم اللاغربي للتغلب على الإمبريالية الغربية، ومن ثم تشكيل النظرية ما بعد الاستعمارية التي أصبحت جسماً تجديدياً من التفكير، كان يحدث موجات خارج موقعه كحقل معرفي. وشكل إدوارد سعيد وستيوارت هول رمزين من رموز إعادة تقييم جذرية للثقافة المعاصرة.
أجمع مناهضو الإمبريالية على المساواة بين الشعوب والثقافات المختلفة بدلاً من المراتبية التي تم تطويرها منذ بداية القرن التاسع عشر كسمة مركزية للإمبريالية الغربية. وهذا ما دفع المجتمعات الغربية إلى النظر في مفاهيم الفكر ما بعد الاستعماري نظرة جديدة.
تأسست النظرية ما بعد الاستعمارية المعاصرة في استلهام أعمال ناشطين مثل فرانز فانون وإيمي سيزار وس. ي. ر. جيمس وآلبرت ميمي، وليوبولد سيزار سنغور وماركوس غافي، وكانت تهدف إلى مناهضة الاستعمار وإزالته.
إن الإمبريالية الغربية في القرن التاسع عشر، كانت إمبريالية عرق، أي تدعو إلى التفوق العرقي المزعوم لمن هم من أصل أوروبي، وهو ما ساقته الإمبريالية وطورته كتبرير أيديولوجيا الاسترقاق. وقد شكلت العرقانية الأساس لفرضيات الحكم الإمبراطوري وتبريراته. وفي ذلك السياق، عملت ألمانيا النازية كشكل أكثر تطرفاً ومنهجية للعرقانية الأساسية لكافة القوى الإمبريالية، وكان الاختلاف أن العرقانية طبقت على الأوروبيين وكانوا ضحيتها. ورغم أن العرقانية كأيديولوجيا دولة قد تم دحضها بعد الحرب العالمية الثانية، فهي لم تتعرض للتحدي على المستوى الثقافي العريض كما على المستوى الاجتماعي حتى ثمانينيات القرن العشرين. في ذلك الوقت كانت معظم الإمبراطوريات قد تفككت، وتم التخلي عن معظم المستعمرات، فكانت ما بعد الكولونيالية لتدق ناقوس موت الطرق التي لا تزال باقية في التفكير حول الاختلاف العرقي والثقافي في أوروبا وشمال أمريكا.
الماركسية
ناقش الفصل الأول موضوعة الاستعمار ومعاملته للسكان الأصليين وحرمانهم من أنى حقوقهم. ويرى يونغ أن الماركسية هي وحدها التي شددت على تأثيرات المنظومة الإمبريالية وبنية القوة المهيمنة، وفي رسم معالم من أجل مستقبل خال من السيطرة والاستغلال. كانت معظم كتابات القرن العشرين مستلهمة من إمكانيات الاشتراكية. لقد كانت الماركسية شكلاً من أشكال السياسة الثورية وإحدى أغنى وأعقد الحركات النظرية والفلسفية في التاريخ البشري، وهي مناهضة للغرب على الدوام. “إن مجمل النشاط المناهض للكولونيالية والكتابة الناشطة في القرن العشرين قد عمل من منظور ماركسي، لأن الماركسية في القسم الأكبر منها هي التي كانت مدركة لأهمية الشروط الذاتية من أجل خلق وضع ثوري”.
تركز النظرية ما بعد الكولونيالية على مكافحة قوى الاضطهاد والسيطرة الغربية التي تعمل في العالم المعاصر: سياسة مناهضة الكولونيالية ولكولونيالية الجديدة، والعرق والجنوسة والنزعات القومية والطبقية والإثنيات. إن هدفها هو متابعة التحرر بعد إنجاز الاستقلال السياسي، وخلق إمكانية الوصول المتساوية إلى الموارد المادية والطبيعية والاجتماعية والتكنولوجية، ودحض أشكال السيطرة الاقتصادية والثقافية والدينية والإثنية.
الإمبريالية
في روايته الفريدة “قلب الظلام” يتحدث الراوي مارلو عن استعباد البريطانيين للأفارقة ويقول: “إن غزو الأرض الذي يعني في معظمه انتزاعها من أولئك الذين يمتلكون بشرة مختلفة أو أنوفاً أكثر تفلطحاً قليلاً من أنوفنا، ليس شيئاً طريفاً عندما تمعن النظر إليه أكثر مما يجب. إن ما يستردها هو الفكرة فقط. فكرة في خلفيتها؛ ليس ادعاء عاطفياً بل فكرة وإيمان غير أناني بالفكرة – شيء ما يمكنك أن ترفعه، وأن تنحني أمامه، وأن تقدم القربان له”. وهنا يوضح كونراد أن الكولونيالية هي تطبيق للإمبريالية، وإن كان الأمر كذلك، فقد كان هذا تفسيراً ارتجاعياً بعد الحدث. كانت فكرة الإمبريالية هي استرداد غنيمة الكولونيالية بالضبط في اللحظة التي كانت فيها تلك الغنيمة قد مُدت إلى نظام سياسي عالمي هيمني. ومع ذلك، فإن ما انطوت عليه تلك الفكرة فعلاً كان من الأصعب قوله.
إن الإمبريالية على حد تعبير باومغارت “مصطلح هجين” متعدد الوجوه، يغطي مجالاً واسعاً من علاقات الهيمنة والتبعية التي يمكن توصيفها وفقاً للاختلافات التاريخية أو النظرية أو التنظيمية. لقد استعملت الكلمة في الإنكليزية بمعنيين سائدين: فقد شكلت في الأصل وصفاً لنظام سياسي للغزو الفعلي والاحتلال، لكنها صارت بشكل متزايد منذ بداية القرن العشرين تستعمل بمعناها الماركسي لنظام عام من الهيمنة الاقتصادية، مع كون الهيمنة السياسية المباشرة ملحقاً ممكناً لكنه ليس ضرورياً.
اختلف معنى الإمبريالية بين الإمبريالية البريطانية والإمبريالية الجديدة الأمريكية، فالإمبريالية البريطانية كانت نظاماً سياسياً للهيمنة الإقليمية ولم تحمل بالضرورة الدلالات النقدية، أما الأمريكية فتعني ضمناً الهيمنة الاقتصادية. تتصف الإمبريالية بممارسة السلطة إما من خلال الغزو المباشر أو من خلال النفوذ السياسي والاقتصادي الذي يرقى بشكل فعلي إلى شكل مماثل من الهيمنة.
صعدت الإمبريالية بوصفها أيديولوجيات الطبقات الحاكمة الإمبراطورية في الحقبة ذاتها التي تم فيها إنشاء حركات التحرر الأساسية في المستعمرات. وكلما كانت هذه الأخيرة أكثر صراحة كانت الأولى أكثر طنيناً؛ بالفعل كانت الإمبريالية ذاتها رداً دفاعياً على حركات التحرر. وهوجمت بسرعة من قبل النقاد الليبراليين والماركسيين في الغرب والشرق.
الكولونيالية الجديدة
يقول نكروما إن “الكولونيالية الجديدة هي أسوأ شكل من الإمبريالية. وبالنسبة إلى أولئك الذين يمارسونها، إنها تعني القوة بلا مسؤولية، وبالنسبة إلى أولئك الذين يعانون منها، إنها تعني الاستغلال بلا تعويض”.
إن النيوكولونيالية تدل على هيمنة اقتصادية مستمرة، ما يعني أن الدولة ما بعد الاستعمارية تبقى في وضع التبعية لأسيادها السابقين، وأن الأسياد السابقين يستمرون في التصرف بطريقة كولونيالية تجاه الدول المستعمرة سابقاً. إن السيطرة الدولية الأمريكية الفعلية تصان بوسائل اقتصادية وخصوصاً حرية الوصول إلى رأس المال والتكنولوجيا، مع السيطرة على المنظمات المالية الدولية مثل منظمة التجارة العالمية أو البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، وحيث تدعو الضرورة يستكمل هذا بالقوة العسكرية.
المناهضة الأوروبية
يقول لوينغ “إن الاعتراض الأخلاقي الإنساني كما رأى بيتر هيوم، قديم قدم الكولونيالية الأوروبية نفسها تقريباً. فقد بدأت معارضة الاستعمار في أوروبا في القرن السادس عشر، وقد كان الأب المؤسس لمناهضة الكولونيالية الأوروبية هو القس بارتلولومي دي لاس كاساس، إذ كتب كتابه “وصف مختصر لتدمير الإنديرز” بعد خمسين عاماً فقط من حملة كولومبوس الأصلية إلى العالم الجديد، فكان أول من شكك في الأساس الأخلاقي والقانوني للاحتلال الإسباني لأمريكا”.
لفت كاساس للانتباه إلى الإبادة الجماعية التي مورست باسم الملك الإسباني، ومن خلاله، باسم البابا الذي كان قد أطلق يد الحملات التبشيرية الإسبانية والبرتغالية في أمريكا. وقد رأى، من الوضع الواقعي للحكم الإسباني، أن الهنود قد أصبحوا بموجب ذلك رعايا للملك الإسباني، ولذلك ينبغي أن ينتفعوا بالحقوق وأشكال الحماية نفسها كما الرعايا الإسبان في الداخل. وبهذه الطريقة شكك كاساس في الأساس القانوني للحكم الأوروبي برمته، وبفعله هذا صادق على الأساس الشرعي لمقاومته.
إن وصف كاساس لمجزرة الهنود الأبرياء من قبل الفاتحين الفاسدين قد شكل مساهمة هامة في تطوير ثيمة الهمجي النبيل في القرن السادس عشر، الذي كان متبايناً عموماً مع الأوروبي المنحل واللاأخلاقي. وقد طور الفلاسفة الإنسانيون فكرة الهمجي النبيل إلى نموذج قدمته الطبيعة نفسها إلى المجتمعات الأوروبية، وهو موتيف كان أكثر ارتباطاً بالكتابات السياسية لجان جاك روسو، لكنه استُخدم على نطاق واسع في الحركة المناهضة لتجارة العبيد، وكان ظاهراً أيضاً ضمن المجال الأدبي في أعمال الشاعرين الرومانتيكيين البريطانيين ساوثي وووردزوورث.
انطلقت في بريطانيا حملات مناهضة للكولونيالية في القرن الثامن عشر، وطالبت بمناهضة العبودية، ومع ذلك لم تكن الحركة المناهضة للعبودية مناهضة للاستعمار بشكل متسق. إن مبادئ “الإنسانية” للحملة المناهضة للعبودية أمكن تحويلها إلى ذريعة لأجل الاستعمار على أساس أنها تمكن بريطانيا من إيقاف التجارة. إن الاهتمام الإنساني بالمعاملة السيئة للسكان الأصليين يعني ضمناً التدخل بدلاً من الانسحاب.
ماركس ثانية
كان ماركس نفسه نتاجاً للمناخ الليبرالي المناهض للاستعمار في أربعينيات القرن التاسع عشر، فقد كان أحد الأعراض الدالة على سياقه التاريخي هو أنه لم يحلل الكولونيالية أو حتى الإمبريالية في حد ذاتها. إذ كانت كتابات ماركس هي التي شجعت الأوصاف اللاحقة بأنهما ممارستان ظالمتان خاضعتان للتحليل النقدي.
أعطى البيان الشيوعي دوراً هاماً للكولونيالية والإمبريالية بمعناها الأوسع، كجزء من تطور اقتصاد عالمي رأسمالي. ودعا ماركس وإنجلز عمال العالم وليس عمال أوروبا فقط، إلى النهوض ضده. إن التوسع الاستعماري يتم إبرازه بشكل مدهش في وصف تطور النظام التجاري الجديد للبرجوازية.
الكتاب: ما بعد الكولونيالية
الكاتب: روبرت يونغ
الناشر: دار الحوار
التاريخ 14-5-2019
رقم العدد:16977