ملحق ثقافي..د. محمود شاهين:
“مدارات الإبداع” كتاب للدكتور عفيف البهنسي، يتناول مفهوم الإبداع في مراحل تكوينه، على الصعيدين العربي والدولي، والتمييز بين الإبداع الصناعي الحِرفي المتمثل بالفنون التطبيقيّة، والحرف، والمشغولات اليدويّة المتعددة الوظائف والاستخدامات، وبين الإبداع الفني التشكيلي الذي أخذ أشكال وصيغ واتجاهات مختلفة، وفقاً لميول الفنانين المشتغلين فيه.
،
شملت المدارات التي تناولها الكتاب: الزخرفة والخط العربي، والتصميم المعماري، واللوحة، والمنحوتة، والمحفورة المطبوعة، وفنون الكتاب، ووضح أهميّة المرحلة التلقائيّة التي ساهمت بتكوين جماليّة الصورة، وصولاً إلى بدايات تكوّن الثقافة الفنيّة التي خضعت لتأثير التيارات الفنيّة، والحداثة العالميّة، والرجوع إلى الأصالة التي سبقها الاستشراق الفني ومؤثراته التعليميّة.
بمعنى آخر: يسعى الكتاب إلى تأسيس مفهوم فلسفي لآلية الإبداع الفني في البلاد العربيّة، خلال القرن العشرين، بمنظور محلي، معتمداً على شهادات فكريّة لأبرز أعلام الفلسفة الجماليّة الحديثة، وعلى مراجع نقديّة هامة، مثيراً بذلك العديد من التساؤلات المعرفيّة، على أعتاب الألفيّة الثالثة، كالتفريق بين ذكاء الآلة وبين المهارة اليدويّة الإنسانيّة، وبيان أواصر الفنون، اعتماداً على علم الجمال المقارن، وأكد على وجود صورة في الموسيقى، وموسيقى وحدس وحركة وزمان في العمارة، ثم توقف الكتاب عند الحدس بوصفه وسيلة تواصل وخلق للجماليات التشكيليّة، ورسم الحدود الفاصلة بين الفنون البصريّة، وهيمنة الآلة عليها، تمهيداً لموت الفن وانحسار فلسفته.
الجمالية العربية
وتوقف الكتاب عند موضوعة الجماليّة العربيّة، والأطر المناخيّة والتاريخيّة والروحيّة في الفن العربي، وميز بين الجمال الفني والجمال الطبيعي، وبين الجماليّة الفنيّة والفكر العربي، مطالباً بإعادة قراءة تاريخ الحضارة العربيّة، وتحديد المفهوم الفلسفي لها. ثم يتحدث عن المدار التاريخي ومراحل تكوين الإبداع الفني وأحقابه وواقعه، فالمدار الصناعي وضروب الفنون التطبيقيّة، كالفخار والخزف والنحت الخزفي، وصناعة الزجاج بوصفها فناً، والفسيفساء، والنسيج والسجاد، والمعادن وصناعة الحلي والسيوف، وصولاً إلى المدار الزخرفي والكتابي الذي يضم الرقش العربي”الأرابيسك” وفن الايقونة، والخط العربي وميزاته ونسبه، وقواعد الكتابة، والأقلام الستة، وأشهر الخطاطين.
الفنون البصرية
بعد ذلك يتناول الكتاب مدار الفنون البصريّة التي تضم التصوير، والرسوم الجداريّة، والفنون الشعبيّة، وفن الترقين، وفن الواسطي، ومرقنات مؤلفات الجزري، والمنمنمات. وفي مدار التلقائيّة يتوقف الكتاب، عند بداية التلقائيّة، وخصائصها، والرسم على الزجاج، وتنوع المنظور، ورسوم الشخوص التمثيليّة. وفي مدار الإبداع العربي، يشير الكتاب، إلى تطور هذا الإبداع، وانتشاره، وأزمته الراهنة. ثم يثير موضوع الاستشراق والمدارس الفنيّة الكبرى، بوصفه اغتراباً واطلاعاً، محاولاً رسم اتجاهات الفن العربي في البلاد العربيّة، وعالم ألف ليلة وليلة، وتحديد ملامح الفن العربي في أبحاث المستشرقين، والإشارة إلى الروائع العربيّة في المتاحف العالميّة.
المتغرب
وفي مدار المتغرب، يبين الكتاب بداياته في بلاده، ثم في البلاد العربيّة، والمتاحف العالميّة، وظاهرة الانفتاح نحو الغرب، وبدايات المتغرب، ثم الغزو الثقافي الفرنسي للبلاد العربيّة. وفي مدار الثقافة الفنيّة، يتحدث عن المعارض الأولى، والمتاحف الرائدة، وطلائع الجمعيات الفنيّة، وبدايات التدريس الأكاديمي في بلادنا العربيّة، وصولاً إلى مدار اللوحة العربيّة وعلاقتها بالعالم، ومراحل تكوّنها، والجيل العربي الرائد الذي اشتغل عليها. وأخيراً يتحدث الكتاب عن الاتجاه نحو الانطباعيّة، والسورياليّة، والتجريديّة، والاتجاهات المحليّة، وموضوع التأصيل، ورواد الهزليّة “الكاريكاتير”، وإشكاليّة البحث عن الهُويّة والحداثة والأصالة، وضرورة تأصيل الفن، والعودة إلى الفن التلقائي، وعلاقة الفن الحديث بالتراث، ومستقبل الصورة والعمارة التراثيّة، مؤكداً على أن مسألة الحداثة ليست خاصة بالعرب، بل إن جميع الشعوب والأمم تضع الحداثة إماماً لها. والحداثة اليوم تعني التغيير الشامل، وهو تغيير ثوري، لأن تطور العقل كان سريعاً وخارقاً أوصل الإنسانيّة إلى اختراعات وتجاوزات لا حد لها. وبرأي الدكتور البهنسي، خلقت ثنائيّة السيطرة والتفوق إشكالاً معقداً في الفكر العربي المعاصر. ففي حين نرفض السيطرة، فإننا نعترف بحداثة الغرب الخارقة، ولكن الأمر لا يستقر في نفوسنا إلا من زاوية الإذعان. فعندما لا نستطيع أن نعاصر التفوق التقني، ولا نستطيع أن نكون فاعلين فيه، فإن ذلك يعني أننا سنكون ضحايا السيطرة الكاملة وراء هذا التفوق، والتغيير المنتظر في الفكر العربي الحديث، لا بد أن يفصل بين السيطرة والحداثة المتفوقة. بمعنى أن يربط مسألة السيطرة الثقافيّة بالكرامة القوميّة، بينما يربط التفوق بالسباق الحضاري النافع للإنسانيّة كلها.
من جانب آخر، لا بد من الاعتراف أنه على الرغم من أزمة الغرب ويقظة العرب، فإن الحوار بينهما ما زال غير متكافئ لسبب بسيط هو ضعف الثقة المتبادلة. فالغرب لا يثق بأهلية العرب للنهوض، ولا يؤمن برشادهم لاستغلال إمكانياتهم التراثيّة والإنسانيّة والبتروليّة. فإذا كانت المعاصرة بمفهومها العام هي المقدرة على المشاركة في بناء العصر، فإن هذا لا يعني أبداً أن نعيش على عطاء العصر، أو أن ينهض العصر على استلاب إمكاناتنا وشخصيتنا. هنا لا تبدو مسألة الأصالة حلاً لقضية ثقافيّة وحسب، بل أساساً لحالة البناء الحضاري، وحالة التحدي التي يتعرض لها العرب، وهي تعني البحث في الذات من خلال التاريخ والحضارة، ومن خلال الواقع والممكن، وهي أساس الدعوة القوميّة. هنا لابد من تصحيح مفهوم الحداثة والتحديث التي قُصد بها تقليد وتمثل الأوروبيين بأفكارهم وعاداتهم وأعمالهم وأنظمتهم. الحداثة بالنسبة إلى الغرب، تعني البحث والعمل على خلق الجديد الطارف في الفكر والأدب والفن والصناعة أيضاً. من هنا، أدى الخطأ في فهم الحداثة إلى اعتبار ما يصدر عن الغرب آية لا بد من الإيمان بها. حتى مؤسساتنا الفكريّة والدينيّة والسياسيّة، فهمناها وآمنا بها بمنطق الغرب. فجميع المؤسسات الحديثة مثل: القوميّة، والديمقراطيّة، والاشتراكيّة، لم نفصّلها على أساس الخليّة الحضاريّة، والواقع المعاش، ولم تُفهم الجماليّة الفنيّة والفلسفيّة العربيّة بمنطق الثقافة العربيّة، لذلك كان ثمة ازدواجيّة في شخصيتنا المعاصرة، فالكامن فيها هو القيم الموروثة والتراث الحضاري، والظاهر منها هو القناع الأوروبي الزائف الذي حجب البنية الداخليّة ومنعها من الظهور والفعاليّة.
يُشير الدكتور البهنسي إلى أن عملية المعاصرة تنطلق من الكشف عن الذاتيّة الثقافيّة وإغنائها، والكشف عن الذاتيّة الثقافيّة إنما يتم بالرجوع إلى حصيلة الثقافة القوميّة التي تكدست عبر التاريخ، والتي اغتنت بالتبادل مع الثقافات المعاصرة أيضاً، لكي نستطيع أن نبني ثقافة أكثر، ولكن يجب أن يكون واضحاً أن المعاصرة غير المتكافئة محفوفة بالمخاطر. فلقد كان الاستسلام للفكر الوافد والآثار المترجمة عنيفاً في تأثيره على شخصيتنا الثقافيّة، ولم يعد سهلاً بعد ذلك الاستسلام الذي امتد خلال القرن العشرين، أن نسترد سيادتنا الثقافيّة إذا استمرت ثقافتنا تقتصر على الترجمة، وعلى دراسة وتبني الفكر والفن المستورد. من جانب آخر لم نستطع إملاء الفراغ الثقافي الذي جاء عن هجرات التراث، وعن الكسل في الإبداع والتجديد، بل لم نستطع تعريب المستورد، وإنما تم أخذه وتمثله كما هو، ولولا اللغة العربيّة التي بقيت صامدة أمام الهجمات الثقافيّة والانتماءات الغربيّة لما بقي للثقافة العربيّة وجود في الحاضر. من هنا تبقى الدعوة إلى الأصالة دعوة إلى الانتماء القومي، والقوميّة هي الحضارة، وبقدر ما نسهم في فهم الحضارة وبنائها، نسهم في بناء الشخصيّة القوميّة، وليس من تعارض بين الانتماء القومي والانفتاح على أن يبقى التوازن بينهما قائماً دون أن نتطرف بالانتماء فنقع في الانغلاق، أو نتوسع في الانفتاح فنهدر شخصيتنا وحريتنا. إن مسألة المعاصرة يجب أن تُطرح على أساس تبادل الحداثة، وليس على أساس سياسة الهيمنة والسيطرة، وان مفهوم المعاصرة يبقى مقبولاً كمسألة تقدميّة تدفع إلى دخول المباراة الدوليّة والنجاح فيها.
التاريخ 14-5-2019
رقم العدد:16977