على صوت منبه الجوال تستيقظ ربة بيت في حي دمشقي حديث ، غرد بعيدا عن روح ماض ما زال يحيا في الذاكرة ، لتبدأ بتحضير وجبة سحور رمضانية تلبي رغبات متنوعة لأفراد العائلة ذات التناقضات الصارخة بالأذواق ، فكل واحد منهم يغني على ليلاه، طالبا أطباقا مشتهاة لصائم يحتار باستحضار ألوان طعامية ، بينما تسابق ربة البيت الزمن لتكون وجبة السحور جاهزة في الوقت المناسب قبل موعد الامساك ، ثم تحاول إيقاظ الأبناء الذين ينهضون متثاقلي الخطا مغمضي الأعين ، في حين تقبض أصابعهم على الجوالات ، و كأنها على وشك الهروب من إحكام قبضتهم للاستراحة من اللهاث في فضاء الشبكة العنكبوتية.
يتحلق الجميع أشباه نيام على مائدة السحور في صمت محكم الإطباق لا تكاد تتسرب كلمة أو يفلت حوار من بين جدران السكون،و كأنهم أغراب و قد ضمهم سقف واحد ، بينما تمتد الأيدي بحركة آلية نحو الهدف لتلتقط الطعام ، في حين الأعين تتابع بشغف مستجدات فيس بوك و تلاحق انهمار رسائل واتس و حالات رمضانية لجهات الاتصال ، يقطع الصمت بعض الطلبات الملحة للتلبية الفورية ، ثم ينصرفون لمتابعة النوم و كأنهم زبائن في مطعم، لتتابع ربة البيت مهامها الخدمية الاستنفارية في شهر كريم ، و لكنه متعب بالنسبة لها كقائمة على الخدمة المنزلية إضافة لكونها موظفة.
يتسارع إيقاع الوقت من بداية النهار فالأولاد سينطلقون إلى المدرسة يسيرون و كأنهم نيام ، بينما الأم تجهز نفسها للنزول إلى العمل ، و خوض معركة صباحية في مواصلات متأزمة ، و بالها مشغول بوليمة إفطار ستقام مساء لصلة الأرحام ، و قد بدا التوتر عليها في كيفية السباق مع عقارب الساعة، أما رب الأسرة فقد شغل نفسه بطريقه إلى عمله بعمليات حسابية مكثفة ، على أمل ألا يخرج منها خاسرا إثر تعاقب أكثر من وليمة في أسبوع واحد، في الوقت الذي تشرع الأسواق أبوابها على مصراعيها في عروض مغرية و تخفيضات خلبية لتلبية متطلبات شهر رمضان ، الذي بات استهلاكيا بالدرجة الأولى ، ليفقد صبغته الروحانية تدريجيا مع حداثة عصرنا المتسارع و المحلق حتى أذنيه في فضاء مفتوح .
مساء و مع اقتراب موعد الإفطار تتسارع الحركة في المطبخ ، و ترتفع ايقاعات موسيقية صاخبة للأواني و الأطباق ، في إعلان صريح عن بدء العد التنازلي لآذان المغرب، بينما تلمع زينة رمضانية مبهجة في الصالون ، و تتعالى أدعية و وصلات غنائية دينية ، في استكمال لخلفية رمضانية تشعر أفراد العائلة بجو رمضاني احتفالي ، يتم استحضاره من خزائن الماضي الجميل ، حيث كان يصدح صوت المسحراتي في أحياء دمشقية عتيقة و اللمة كانت حقيقية لا الكترونية .
استكمالا لأجواء رمضانية معاصرة تصور ربة البيت وليمتها على جوالها ، لتنشرها على صفحتها الفيسبوكية ، كسكبة افتراضية للأصدقاء و المحبين و الجيران على طبق فضائي ، ليحط رحاله في حالة واتس كنوع من التواصل و الألفة بروح معاصرة .
و أمام طوفان درامي و مسابقات و خيم و سهرات رمضانية ، و إعلانات موسمية تلفزيونية لشهر الكرم و الولائم ، يتسمر أفراد العائلة أمام شاشة التلفاز ، بعد وضع خطة رمضانية محكمة ، لعدم إفلات أي مسلسل أو برنامج مسابقات من يدهم ، في حين ما زال الصمت سيد الجلسات و السهرات ، أما التواصل الاجتماعي فهو متربع على عرش القلوب و العقول ، في انسحاب تدريجي لخصوصية رمضانية من زمن مضى ، يترحم على أيامه من عاصروه ، و ذاقوا روحانية طقوسه من عبادة مكثفة و تواصل اجتماعي حقيقي ، يسعى لصلة رحم و تضميد بؤس جيب فقير ، و إغناء مائدته و بلسمة غربة دراويش في عالم المترفين.
شهر رمضان المعاصر بات استهلاكيا بالدرجة الأولى ، و لتلبية شهوات البطون أولوية، بينما الصيام هو للشعور بالفقراء لالزيادة التخمة و الإنفاق ، و الشاشة التلفزيونية تحولت من روحانية رمضان ، إلى استعراض الأطباق الغذائية و إقامة مهرجان رمضاني حافل بالمسلسلات ، و المسابقات التي تنهمر منها ملايين الليرات دون خوف على قلوب الفقراء.. الله يرحم أيام زمان…
منال السماك
التاريخ: الخميس 16-5-2019
رقم العدد : 16979