أتحدَّثُ عن ذلك الوعيِ السَّابِقِ لوقتِهِ وأوانِهِ وظرفِهِ وعصرِه، ذلك الذي يستوعِبُ الكينونةَ والحالَةَ والواقعَ، متجاوزاً ذلكَ الاستيعابَ إلى الاستشرافِ، مُهَيِّئاً السُّبُلَ إلى رؤيةٍ ورُؤيا، وإن تكُ مُتَّهَمةً بعضَ الشَّيءِ بالرُّومانسيَّة، ومتعارضةً مع ما قد لايتحمَّلُهُ الواقعُ، إلا أنَّ لِكُلِّ وقتٍ وعصرٍ مثقَّفُيهُ الذين ينهضُونَ به بوعيهم المُبَكِّر وفكرهم الاستشرافيِّ الاستشراقيِّ الاستثنائي النَّيِّر، متجاوزين حدودَ حُجُبِ الواقعِ وضبابية المشهد إلى تشخيصِ المستقبل وما يجب أن يكون عليه، متحملين أغلى الأثمان وأبهظ الفواتير لقاء وعيهم ومشروعهم هذا.
أَجِدُني أسُوقُ ما أسُوقُ من مثالينِ ناصِعَينِ، ليس لجهةِ المناسبة فحسب، وهي الاحتفاءُ بأفُولِ شِهابٍ ساطعٍ، وجُذوةٍ خَبَتْ من دنيانا برحيلهِ، ونحنُ على أعتابِ ذكرى هذا الرَّحيلِ المُوجِعِ البَديعِ الفريدِ المُبَكِّرِ للمسرَحِيِّ العربي السُّوريِّ الكبير سعد الله ونُّوس، بل أيضاً لجهةِ ما نَمُرُّ بهِ داخلاً وخارجاً، نفقٌ مظلمٌ، هو برزخٌ طويلٌ ومخاضٌ صَعْبٌ لأزمَةٍ هي تراكُمُ أزْمَاتٍ، لم ينجَحْ معها صراخُ الأوفياءِ، ولا صُداحُهُم بالحَقِّ والحقيقة في عقود خلت، بل في وقت خلا من أمثالِ هؤلاءِ قناديلِ الدُّجَى ومنارات الدُّروب الذين نتلمَّسُهُم في عتمة أزمات كهذه.
بين جَبَلَيْن، أبَوَيْن، بين جِيْلَيْن جَبَلَيْن، أجدُني أكتُبُ ما أكتبُ، ليس لفنٍّ اسمه المسرحُ، وليس لمسرحيَّينِ عملاقين، بل لفكرين ثاقبين، أحدهما أبٌ مؤسِّسٌ، والثاني ابن خَلَّاق، وما بينهما من مصير أمة لم تقوِّمْهُ مصائرُ أبنائِها، ولا جهودُهُم ولا دماؤُهُم، ولا كثرةُ الحروبِ الصَّغيرة أو الكبيرة، ولا الانقلاباتُ الفكريَّة أو العسكريَّة، ولا الحراكاتُ، ولاالثَّوراتُ، ولا الإيديولوجيَّاتُ، ولا العدواناتُ الدَّاخليَّةُ أو الخارجيَّةُ، ولا التَّشرذُماتُ، ولا السَّرطاناتُ السِّياسيَّةُ، ولا رأسُ خنجرٍ مسمومٌ هو إسرائيل.
ونحنُ نستذكِرُ سيرة «أحمد أبو خليل القبَّاني»، ومدرستَهِ الرَّائدةَ في المسرحِ والفكرِ الثَّقافيِّ التَّنويريِّ، يمتدُّ بنا المدادُ لتلميذِهِ، ووريثِهِ الشَّرعيِّ الوحيد، حتى الزَّمن الرَّاهن، الرَّاحل سعد الله ونُّوس أجدُني أكتُبُ، لا لشخص بعينه منهما، بل لفكرٍ نَهْضَوِيٍّ تنويريٍّ خَلَّاقٍ، استمرَأَ النِّضالَ والمقاومةَ وأَلَمَ الأحداثِ والمصائرِ بعذاباتِها المُمِضَّةِ على النَّفسِ والرُّوحِ والجَسَد، لأجلِ مشروعِ خلقٍ وبعثٍ ينهضُ بالأمَّة، وبالشُّعُوبِ العربيَّة.
مشروعٍ تجريبيٍّ حداثويٍّ، يضعُنا أمامَ أخطائِنا وواقِعِنا وهزائِمنا وأوجاعِنا وآلامِنا ومصائِرِنا، ومسؤوليَّاتِنا كمرآةٍ صادقةٍ، لا ليثبِّطَ العزائمَ، بل ليشحَذَ الهِمَمَ والعزائِم، مشروعٍ جوهرُهُ الاختلافُ، الخَلْقُ، الإيقاظُ، الهاجِسُ الخلاقُ، التَّفَرُّدُ، التَّوَحُّدُ، فكانا كلَّ هذا وأكثر.. مشروعٍ استشرافيٍّ متجدِّدٍ يتوالَدُ لما يجبُ أن يؤُولَ إليه المستقبلُ، فيما لو قُدِّرَ لنا أن نقوم بدورنا في اللحظة التَّاريخيَّةِ المحتَّمة، المُنَاسِبَة.. الغريبُ في الأمر، ليسَتْ البيئة الاجتماعيَّة التي طلعا منها، وهي ثَرِيَّةٌ غنيَّةٌ معروفةٌ عند «أبي خليل القبَّاني»، وهي بسيطَةٌ عفويَّةٌ كادحةٌ فقيرةٌ عند «سعد الله ونُّوس»، ونستبعدُ الغرابة هنا حينما نستقصِي الأسبابَ التي جمعت شخصيهما ومشروعهما في بوتقة واحدة هي التنوير والنهوضُ وامتلاك ثقافة وعيٍ رائدة، والتي نتلمَّسُها في الوعي العميقِ المُبَكِّرِ، والهِمَّة العالية للتَّغيير والاختلاف، والإحساس العميق بشؤون وشجون الأمَّة، ومِثْلُهُ الإحساس بعمق المسؤولية التاريخية.
مانحتاجُ إليه في الوقتِ الرَّاهن ثقافةُ الوعي… وأستطيعُ القولَ بشجاعة وصراحة إنَّنا فقدْنا جيلاً بعدَ هؤلاءِ الكبار، ولم ننتج شيئاً سوى الدَّورانِ في فلك هؤلاء الكبار، بينما الأوطانُ تحتاجُ دماءً متجدِّدةً، وفكراً خلَّاقاً دائمَ الخلق والاستمراريَّة في التَّشبيك مع غيرهِ من الأجيال،كم تراودني كلمةٌ لأحد أساتذتي «نحنُ جيلٌ بلا آباء» وهو مُحِقٌّ، فكثيرون ممَّن يمتلكون الوعي، ولكن لايمتلكُون فنَّ صياغتِهِ أو القدرة على التَّعبير عنه، وإن فعلُوا، فلا يمتلكُون فنَّ الإفصاحِ عنه أو تبنِّيه أو إشهارَهُ أو مَنْهَجَتَهُ، ليكون ولو صرخَةَ مشروعِ وعيٍ أولى.
نحن بحاجة لإنتاج مشروع ثقافة الوعي، وإشهاره وإظهاره، لنكونَ على مستوى الحَدَثِ وبالتَّالي المسؤوليَّة التاريخيَّة… فلنكن ممن امتلكوا هذا الرهان اليوم، ولنعمل عليه كما رجالِ الطُّهر شهداء سورية، الذين عملوا عليه ومضوا إلى مصائرهم منذ اللحظات الأولى، ووعوا امتلاكهم لهذا الوعي، وإلا لما صبروا وصمدوا وبذلوا وضحوا ومستمرون..
ليندا إبراهيم
التاريخ: الجمعة 17-5-2019
رقم العدد : 16980