/حبرٌ وتبرٌ وشريانٌ وأقلامُ/ وجوهرُ النَّصرِ ميثاقٌ وضرغامُ/ ومفرداتٌ خضاب العشقِ جوهرها/ في فطرةٍ كلّها عزمٌ وإقدامُ/ وكوكبٌ حوله دارت مخيِّلتي/ وفي يديها أخاديدٌ وآلامُ/ جذرُ القوافي له في الأرضِ ذاكرةٌ/ وفي الغصونِ له ريحٌ وأعلامُ/ عشقُ الترابِ له سرٌّ يباغتنا/ بأنَّ تكويننا طينٌ وإضرامُ/ فكرٌ وتبرٌ وحبرٌ كيف نمحوها/ والله للجوهرِ الكونيّ رسامُ/ للأرض في سرِّها المكنون فلسفة/ والبعض عن فهمها في العمقِ قد ناموا/ هي انتماءٌ لمن أورى حقيقتها/ طوبى لمن باسمِها صلوا وقد صاموا».
هي قصيدة لشاعرٍ، من شدَّة ما شغلتهُ قضايا الحياة والإنسان والوطن، اتَّقدت لديه الأحاسيس والمشاعر، فاشتعلَ حرفه وسرى من دمهِ إلى أرضه، وعبر قصائد أوغلت في تبيانِ ما يعتمل في أعماق الوجود والنفس البشرية.. قصائدٌ منها «مقاطع مبعثرة» و«هواجس وأجراس» و«طقوس مهرجانية».
إنه «سامر محمود الخطيب» الشاعر الذي رأى بأن «على الشِّعر أن يحمل قضية وهوية، مركز دائرتهما الحب والإنسانية».. رأى ذلك، فسعى للتركيز على كلِّ وجداني، وللتحليق مع كلّ عاطفي.. للتماهي في الروحي، ولتنفُّس الإنساني، ولاسيما في «طقوس الأرض» حيث صرخة النبض: /للأرض حضنٌ خرافيٌّ وقد حملتْ/على يديها أقاليمٌ وأقوامُ/ ورحمها فيه أسرارٌ وأزمنة/ وكلّ عامٍ له في شَرعها عامُ/ الأرضُ ما اﻷرض؟! علياءٌ وقد نبتتْ/ فيها نجومٌ فـ هاماتٌ وأقلامُ/ إنجيلها الحبُّ صلَّى تحتَ تربتها/ فقامَ من وجهها المكنون إسلامُ/ وموجها في يديهِ الدرُّ ترفعهُ/ كفُّ الدعاءِ وإيمانٌ وآلامُ/ إن لم نكنْ رهنَ ما تأتيه من شغفٍ/ فقلبنا فيه تقسيمٌ وإظلامُ/..
لاشكَّ أنها آياتٌ أكثر ما دفعه لديمومة ترتيلها، الحربُ التي شُنّت على وطنه فاضطرتهُ لقراءة أوجاعها.. أيضاً، لقراءةِ أسماءِ مقاوميها ممن قدَّست القصيدة أسماؤهم المصلوبة على لوحاتٍ، شيَّعها شعراً وبنزيفِ الكلمات:
/كنَّا وكان الوردُ والريحان/ وعلى القصائدِ تسبحُ الشطآن/ وسفينةُ الكلماتِ تعبرُ حيثما/ تتكلَّمُ النهداتُ والأوطان/ والأرضُ فاتحة الصلاة فكلَّما/ باسمِ الشهادةِ رتَّل الشجعان/ فتحتْ ذراعيها لتقرأ آية/ صمتَ المدى وتكلَّم الزمان/ حتى إذا ما الشَّمس ألقت ضوءها/ وتفجَّرت في كفِّها الأكفان/ عكسَ الترابُ شعاعَ من في كنهِها/ سكبوا المدادَ ليكتبَ الشريان/.. لولا الشهيدُ لما نما في أرضنا/ روضٌ ولا ركعت لنا الأزمان/..
هكذا قرأ «الخطيب» أوجاع الحرب وانعكاساتها على وطنه وأبناء قلبه.. هكذا قرأها وسبّح باسم كلّ شهداء النور ممن أضاؤوا الحياة بأسمائهم وأرواحهم ودمائهم التي تماهت في أرضهم- أرضه..
هكذا قرأها.. بعقلهِ ونبضه وعاطفته.. قرأها فكتبها، وبمفرداتٍ عميقة في تقديسها لشهداءِ الحقِّ الذين تحوّلوا إلى معانٍ ارتقتْ بها قصيدته.. أيضاً، جريئة في إطلاق لعنتها على كلِّ الذين بثوا أحقادهم وظلامهم وسمومهم في وطنٍ واجههم بحقيقتهم: «يا سيرة غيَّبَ الغاوونَ سيرتُها/ لمَّا مشوا تحتَ جنحِ الإفكِ والعفنِ/ كأنَّهم عبَّدوا الأشواقَ أضرحة/ فصار للحزن جيبٌ داخلَ الكفنِ/ وللحروبِ عيونٌ كلَّما اتَّجهت/ نحو الطغاةِ أعادتْ عقربَ الزمن/..
قصائدٌ كثيرة وعديدة، أطلقها الشاعر واصفاً بها أحوال مجتمعه في ظلِّ الحرب التي أشعلها قوَّاد الإنسان والأديان.. الحرب التي تناول سلبياتها وانعكاساتها ومافرزته من مستغلين ومتاجرين بالإنسانية وقيمها وأخلاقياتها.
تناول كلّ ذلك، معتبراً أنه واجبه، بل واجب كل مثقِّفٍ أو شاعر أو مفكرٍ.. الواجب الذي يتطلّب قيام هؤلاء جميعاً بما سعى للقيام بهِ، وكشاعرٍ رأى بأن مهمّة قلمه:
«الإضاءة على الإشراقات والانتصارات، والتأكيد عليها واستنهاض الهمم، وهو واجب فكري وواقعي أيضاً.. القلم هو دمٌ ونبضٌ، وبندقيةُ وجودٍ ومدفعُ عزيمةٍ وطائرةُ انتصار، ودوره لا يقل أهمية عن سلاح المعارك..».
رأى ذلك وأكثر، وعلى مدى الحرب التي توالت فيها وتضخَّمت أحقاد وأطماع العدو الأكبر.. توالت وتضخَّمت بالقراراتِ الضالة التي أفتى الغولُ الأميركي، بجعلها توافقُ مصالح ضبعهِ «الإسرائيلي».. أفتى فرفضنا، وبكلِّ الأصواتِ التي منها صوتُ شاعرٍ، واكبنا صرخته التي أكّد بها كما أكّدنا: «مهما تحرَّك منطقُ الطوفانِ/ سيمرُّ نوح دمشق في الجولانِ/ ويهزُّ نخلَ النصرِ فوقَ ترابنا/ حتى يمزِّق منطقَ الطغيانِ/ فاخلعْ إذا ما جئتَ تدخلُ دارنا/ نعلَ الجنونِ بحضرةِ الأوطان/ فترابنا بدمِ الولاةِ معبَّدٌ/ ومعَّمدٌ بشريعةِ الإنسان/ ورجالُ شمسِ الحقِّ فوقَ عيونهم/ نورُ النجاة وجنَّة الإيمان»..
إنه خيرُ مانختمُ به.. قصيدة الحبِّ لوطنٍ تسيّج به المجد، فأنطقَ الحقّ باسمه ولأجله.. قصيدة العشق الذي عانقت جولاننا بدمشقنا، ولأن نبضهُ فيها، يصدحُ مع الشعرُ والشعراء وكلّ من يعشقها ويتغنّى بعينيها: «عيونكِ يا دمشق سماءَ قلبي/ ونحو الشَّمس قد طارَ الحمامُ/ ففيكِ العلمُ قد صلَّى وناجى/ وفوقَ ثراكِ قد ركعَ القيامُ/ فأنتِ الجنَّة الأسمى لروحي/ وأنتِ في مساجِدنا الإمامُ/ إذا برداك في الصحراءِ غنَّى/ فينبوعُ القصائدِ لايضامُ»..
هفاف ميهوب
التاريخ: الجمعة 17-5-2019
رقم العدد : 16980