لقد غيّر ظهور التكنولوجيا الحديثة ومخترعاتها من حياة البشر، وهي تتغلغل في شرايين حياتهم كما قطرات الماء فوق تربة جافة.. إذ ليس هذا في مجال التسلية فقط والترفيه، بل في الخدمات الفائقة، التي اختصرت الوقت والجهد، وفي آفاق المعرفة التي أصبح استحضارها بسيطاً وهي تقع عند أطراف الأصابع إذا ما فُتح جهاز، وشُبكت شابكة، وأبعد من ذلك لتغدو الوسائل المتطورة من أساسيات الحياة المعاصرة لا من كمالياتها.
ويكفي أن نعرف أن أكثر من ثلث سكان العالم باتوا سجناء أسوار مواقع التواصل الاجتماعي، وبرامجها المتاحة لكل من يرغب في الانضمام إلى جوقة العصر، وهي تصدح في كل لمحة، وثانية بآلاف التعليقات، والأخبار، والتغريدات التي يصل صداها إلى كل مكان، وتتناقلها الفضائيات على تكاثر أعدادها، ومساحة انتشارها بين جماهيرها.
وحتى الجريمة بكل أشكالها القديمة، والمبتكرة الجديدة أصبحت أكثر حضوراً بفضل الثورة الرقمية، وما تقدمه من تسهيلات لاقترافها.. أما البطالة التي تسببت بها الآلة المسعفة بالسرعة، ودقة الإنجاز فحدّث عنها ولا حرج.. وغير هذا كثير.
وإذ يعلو ضجيج المدنية حتى يكاد يصيب الآذان بالصمم فإن هناك بالمقابل جزراً منعزلة يسودها الصمت، والهدوء، وتكتسحها فطرة الطبيعة.. فلا لوثتها المصانع، ولا انتهكت عزلتها أجهزة رقمية.. فإذا بأناس أغنياء، أو دون ذلك يجعلونها مقصداً لهم ليهربوا إليها بين حين وآخر، وهم يسعفون أنفسهم في هذا الهروب من أمراض العصر التي باتت تباغت دون سابق إنذار.. هذا من جهة.. ومن جهة أخرى تكون حالة الإشباع التي وصل إليها بعض الناس من كل ما هو ممكن ومتاح، أقول تكون سبباً لهذا الهروب نحو عزلة ليس فيها أكثر من طبيعة نقية، وهدوء يكاد يشبه بصمته مكاناً مقدساً لا ترتفع فيه الأصوات إجلالاً، واحتراماً لقدسيته.
جزر صغيرة كانت أم كبيرة المهم أنها في أرض منفية عن تلوث الحضارة، وتكاد تشبه محميات بيئية يشتريها الأثرياء لتكون ملاذاً لهم بعد أن وقعوا في فخ الحياة الاستهلاكية وهي تستنزف الأرواح قبل الأجساد، وليعيشوا فيها أوقاتاً يرتشفون خلالها صفاء أزمان سبقت قلّت فيها أعداد البشر، وقلّت إمكانات الوسائل الحضارية في تأمين الرفاهية، وهم يحرصون على إبقائها كما هي دون تطوير، أو تغيير، بينما المتع المتاحة فيها أكثر من أن تحصى، من هواء عليل، وجبال مزدهرة بالنباتات والأشجار، وطبيعة تجلب السكينة للنفس، وشواطئ تدعو مياهها المتلألئة تحت أشعة الشمس إلى التمتع بكل أنواع الرياضات المائية.
ومن المستغرب حقاً أن الناس عندما يقصدون مثل هذه الأماكن فإنهم يستطيعون التكيف مع بيئاتها التي ظلت بعيدة عن المدنية، وكأنها الهجرة المعاكسة من المدينة إلى الريف، فإذا بهم يبتكرون أساليب للعيش تختلف كثيراً عما كانوا يمارسونه في المدن المكتظة، أو العواصم الكبرى ليختبروا بالتالي مشاعر مختلفة، ويخوضوا في تجارب غير مألوفة.
لكن الإنسان في كل الأحوال إنما ينقل معه ثقافته التي اختزنها سواء في التعامل مع مفردات حياة مختلفة وغريبة عنه، أم في تطويع ما هو متاح في هذه البيئات لتصبح صالحة للحياة.. وكأنه البحث عن بدائل المدنية بأدوات أقرب إلى البدائية منها إلى الأخرى المتطورة.
وحتى السياحة المعاصرة فقد استلهمت من سلام تلك الأماكن المنعزلة برامج لها تغري من خلالها كثيراً من الناس لأن يخوضوا تجربة العزلة الهادئة.. سواء في الصحارى، أم الغابات، أم في جزر تتوسط البحار.
ويبقى الأمر مرهوناً بمدى التخمة الحضارية، وحدود الإشباع التي قد يصل إليها المرء فلا يعود ينشد أكثر من العودة إلى الذات، بعد أن أفسدت وسائل العصر منه كل هدوء، وسلام.
لينـا كيــلاني
التاريخ: الجمعة 17-5-2019
رقم العدد : 16980