اُستخدمت الفسيفساء في أقدم الصور الإسلامية وكذلك الإفرسك – الرسم بالألوان المائية على (الكلسة الرطبة) للجدران- وتعود أقدم استخدامات الفسيفساء في الفن الإسلامي إلى عام (65 هجري ـ 684 ميلادي) عندما قام عبد الله بن الزبير بإعادة بناء الكعبة بعد أن تعرضت للحريق. فجلب فسيفساء زجاجية من صنعاء.
شاع استعمال الفسيفساء على نطاق واسع أيام الأمويين لتزيين القصور وواجهات المساجد وقبابها، ومن أقدم لوحات الفسيفساء تلك التي عثر عليها في قصر (عمرة) شرقي العاصمة الأردنية عمّان لتزيين أرضية القصر. وكانت لوحات فسيفساء حجرية مثلّت زخارف نباتية وهندسية، ونُفذت حسب الطراز الكلاسيكي الشائع في ذلك العصر، وبعضها يشبه تلك المنفذة على قبة الصخرة في القدس، إلا أن أجمل لوحات الفسيفساء قد وجدت في قصر (خربة المفجر) في أريحا (730 م) وتصور شجرة تشبه في طرازها كثيراً الأشجار في فسيفساء مسجد دمشق الكبير (الجامع الأموي)، ويوجد تحت الأغصان أسد وثلاثة غزلان لها نكهة شرقية وهي تكرار لموضوع كان بالغ الانتشار في بلاد الفرس منذ الحقبة الأخمنيية (550 ق.م).
وخارج إطار العمارة المدنية كانت لوحات الفسيفساء عنصر التصوير الوحيد الذي أتيح له الحضور في المساجد، وإذا كانت فسيفساء قبة الصخرة في القدس قد غلبت عليها الزخرفة النباتية والهندسية، فإن فسيفساء الجامع الأموي بدمشق قد حفلت بمشاهد الطبيعة والبيوت، وإن غابت عنها صور البشر بسبب قدسية المكان الذي وجدت فيه.
يقدم الجامع الأموي في دمشق وثائق مهمة لتاريخ فن التصوير الإسلامي، ومما يؤسف له أن الأعمال الفسيفسائية الكبرى تعرضت لهزات أرضية متعددة، ولعدد من الحرائق، وأكثرها ضرراً حريق 1893. ولم ينته إلى عصرنا الحاضر منها إلا مشاهد جزئية متبقية على واجهة قبة النسر، وعلى قناطر أروقة الجامع وجدران صحنه وأجزاء لا تذكر في داخله، وقد رممت هذه المشاهد واستعيض عن بعضها بمشاهد أخرى، ومع ذلك فإن ما بقي منها كاف لكي يرسم في خيالنا صورة حية لما كانت عليه رائعة من روائع الفن العالمي في كل العصور، كما يقول الدكتور سليم عادل عبد الحق، وقد ظهر في لوحات فسيفساء الأموي موضوع جديد يتمثل بتصوير العمارة فضمت اللوحات صوراً للقصور متعددة الطوابق وللبيوت والجسور والأبنية متنوعة الاستخدام، وتجمع هذه العمائر جميعاً مشاهد الطبيعة الحافلة بالأشجار والأنهر المصورة ببراعة وأناقة، وقد اختلفت الآراء في تفسير معاني تلك اللوحات، بين من اعتبر أنها تصور مشاهد مدينة دمشق، ومن رأى أنها ترمز لكل مدينة وشجرة معروفة في ذلك الزمان تعبيراً عن اتساع الدولة، أو طموحاتها، وهناك من ذهب إلى اعتبارها صور الجنة التي تجري من تحتها الأنهار كما تخيلها المصورون. وليس من شك أن من قام بتصميم هذه الفسيفساء، وتنفيذها في الجامع الأموي الكبير هم فنانون وحرفيون من أهل دمشق عرفوا بمهارتهم في صنع أحجار الفسيفساء الزجاجية المربعة في بلد عريق بصناعة الزجاج، وقد عثر خلال التنقيب في منطقة القشلة في باب توما على آثار مشاغل لصناعة أحجار الفسيفساء الزجاجية التي كانت وافرة إلى حد تصديرها إلى القدس وغيرها، وتذكر كتابات تاريخية أن الوليد بن عبد الملك، أمر عامله في المدينة المنورة عمر بن عبد العزيز بإعادة بناء مسجد الرسول، وأرسل إليه عمالاً من دمشق مع أحجار فسيفسائية زجاجية لتزيين المسجد، على غرار جامع دمشق.
وتنفي هذه الكتابات، بشكل غير مباشر، روايات مختلفة عن بناء الجامع وتزيينه، تنسب الأمر إلى بناة، ومواد بناء، تم جلبهم من خارج سورية، ولكن المشكلة ليست في تلك الروايات، وما تحمل من دلالات وغايات، وإنما في حقيقة أن وصف الجامع الأموي – تاريخياً – اعتمد على نصوص مكتوبة، لا على صور مرسومة، وهي المشكلة التي ظهرت مع بدء المشروع الحضاري الكبير لإصلاح وتطوير الجامع الأموي عام 1994. فبعد مئة عام على حريقه الكبير لم تنجح عمليات الإصلاح والترميم الكثيرة في إعادته إلى ما كان عليه حين تم إنجازه، وكان أكثر ما تعرض للضرر قبته الشهيرة (قبة النسر) ولوحات الفسيفساء، فقبة النسر كانت، وحكاية بنائها، شاهداً على براعة المعماريين المحليين، وقد تم استبدالها من قِبَل المهندس الأوربي الذي أشرف على عملية ترميم الجامع بقبة على الطراز الفلورنسي – دون أي مبرر إنشائي، أما اللوحات الفسيفسائية التي كانت تشغل كل أروقة الباحة الخارجية، إضافة إلى واجهة القبة، فقد ضاع قسمها الأعظم، بل إن بعضها قد تم تغطيتها بالكلس في زمن مجهول وظلت مخفية تحته إلى أن تم كشفها في عشرينات القرن الماضي؟!
كما سبق فإن ما ضاع من فسيفساء الأموي لا يوجد عنه سوى النصوص الوصفية الكتابية التي لا تكفي أن تكون مرجعاً لعمل بصري. ومع ندرة ما تبقى، ورغم وجوده في أهم معالم مدينة دمشق، فإن الحديث عن ضعف المعرفة بفسيفساء الأموي ليس من المبالغة بشيء، فالنصوص التاريخية التي تحكي بإسهاب عما يُعرف لدى الباحثين بـ (لوحة بردى)، ترفق – غالباً – حين الاستشهاد بها بصور لوحة واجهة قبة النسر، في حين أن اللوحة المقصودة والتي تّعد من أكبر لوحات الفسيفساء في العالم تقوم في مكان آخر، وتحديداً على جدار الرواق المجاور للمدخل الرئيسي للجامع.
إذا كان الحال المعرفي هكذا فيما يتعلق بأحد أكثر الأماكن حضوراً في الذاكرة، وفي الحياة اليومية المعاصر، فكيف الأمر مع أوابد وفيرة تكاد تكون مجهولة بالنسبة لمعظمنا مثل: ماري وأوغاريت وإيبلا وتدمر وعين داره والمدن المنسية وكنيسة قلب لوزة التي اعتبرت بعض المصادر الغربية قبل وقت قصير أن تصميمها المعماري أساس تصميم كنيسة نوتردام الباريسية؟
سعد القاسم
التاريخ: الثلاثاء 11-6-2019
الرقم: 16997