في هذا العصر الذي أصبح فيه كل شيء غارقاً في المادة يلهث وراء المحسوس، ويقنن العلم بالتجربة والقوانين، فإن الإنسان المعاصر بالمقابل بات يتجه إلى الفنون عموماً كالموسيقا، والغناء، والتمثيل، والرقص، والرسم، وغيرها، أكثر مما كان يفعل في أزمنة سابقة كنوع من الرغبة بالانعتاق من عبودية جديدة هي عبودية المادة التي استلبته.. فإذا به يبتعد أكثر فأكثر عن مقولة (الفن للفن) ليصبح الفن وسيلة، أو سبيلاً يُرسم حسب مقتضى الحال.. وإذا بالفانتازيا التي تُعرّف على أنها: (تناول للواقع من رؤية غير مألوفة) ـ تجتاحنا في أغلب الفنون وأبرزها فن السينما، وقد أصبح أغلب إنتاجها اليوم من الأفلام يعتمد على الخوارق، واللامألوف، وعوالم السحر، والغموض، والأسطورة، وتصل بنا أيضاً إلى الخرافة.. لتحقق من خلالها شعبية كاسحة، ونجاحاً كبيراً.
فإذا بنا نصل بالتالي إلى القول بأن (الفانتازيا) أصبحت مجنحة ولا تدل إلا على خيال الخيال، أو ما يفوق الخيال. وإذا كانت الفنون جميعاً، وقد وُظفت لأهداف شتى ليس أولها السياسة، ولا آخرها رفاهية الإنسان، فإن بعضاً من هذه الفنون يضاف إليها فنون أخرى مبتكرة، وحديثة أصبحت لا تعنى بمقولة (الفن للفن) بمقدار ما تعنى بأهدافها البعيدة في بث الأفكار، وحصاد الأموال، ورسم السياسات ربما.
وبما أن الحداثة قد خدمت الفنون جميعاً بما فيها الشعر، والأدب، وفتحت أبواب الشاشات الصغيرة، والكبيرة فإن خيال المتلقي، أو المشاهد قد أصبح الآن موضع تساؤل: فهو من جهة مقصوص الجناحين بعد أن صادرته المؤثرات البصرية السينمائية لصالحها بما لديها من إمكانات تكنولوجية تحقق ذلك الإبهار البصري الفائق، ومن جهة أخرى فإن ما تنتجه السينما حالياً بإمكاناتها التي أصبحت لا محدودة بات محرضاً للمزيد من عجائب الخيال، وغرائبه، مما تجسده فانتازيا الفن، والأدب.. فأيهما ستكون له الغلبة مع تصاعد أدوات الفنون وتطورها في الصورة، واللحن، والفكر؟
لكن الفنان المعاصر استطاع ببراعة أن يتواصل مع الفن لا ليصل به إلى مرحلة (الفانتازيا) فحسب بل للعب بها أيضاً ـ وأقصد الفانتازيا ـ فإذا به ينقلها من فن إلى فن آخر.. وإذا به أيضاً يمزجها مع كثير من ألوان الفنون، والأدب.. إذ استطاع أن يجسد فكره من خلالها.
كل منا عندما يسمع لحناً ما يعجبه، وينسجم معه فإنه يغمض عينيه، ويتناسى حواسه ليطلق العنان لمخيلته، ولكنه مع بعض الأفلام الحديثة يفتح عينيه جيداً ليرى رعشات الحلم تخفق في جوانبها. مثل هذه الرؤية الخيالية، وغير المألوفة فإنها في حداثتها تنال عناية كبيرة من النواحي الفنية، والتكنولوجية.. بل إنها صُممت لتضرب على أوتار حساسة في النفس الإنسانية، ولتوقظ المشاعر، وتلون العالم بألوان جديدة حتى ليخيل للمشاهد أن حاسة من حواسه يمكن أن تتحول في لغتها إلى حاسة أخرى.
أليس هذا ما يجهد العلماء، والأطباء من أجله مع الذين فقدوا نعمة البصر مثلاً ليكون التعويض بحاسة السمع كبديل عن البصر؟ فكيف إذا اجتمعا معاً -السمع والبصر- عند الأصحاء؟.. إنه إيقاع كوني جديد تماماً لعله يوجَه الآن لكل الناس لا للنخبة فقط، أو لعدد محدود منهم لأنه يفتح باباً سحرياً ربما تفيد منه الطفولة أكثر ما تفيد لأنها معرضة باستمرار لمصادرة أحلامها، ولسد الأبواب أمام مخيلتها وهي تُجر رغماً عنها إلى الشاشات الصغيرة والكبيرة التي تستنفد قدراتها على التخيل بحيث تعتاد الكسل، ولا تعود قادرة على الإبداع.
قد يخطر في بال المرء أن يجسد بخياله كيف بدأت الخليقة على الأرض مثلاً، أو كيف عاش الإنسان الأول، أو غير ذلك، إلا أن أسلوب حياته المعاصر لا يتيح له العودة بالذاكرة إلى سلسلة أجيال وأجيال مضت ليتخيل تلك النماذج ـ كيف كانت الخلجان، والشواطئ، والغابات، والبحيرات، والتلال وهي تسبح بجمالها البدائي مع أنغام الطبيعة الخفية.. لكن الفنون المعاصرة وأولها السينما قد فعلت مثل ذلك وأكثر ببراعة تجاوزت الحلم وأكثر.. وجعلت من الحياة ممراً إلى (الفانتازيا).
لينـا كيــلاني
التاريخ: الجمعة 21-6-2019
رقم العدد : 17006