لم تنتهِ التفاصيل الملحقة بحادثة إسقاط الطائرة الأميركية المسيَّرة، وإن حُسمت النتائج في جولة مبكرة من المواجهة، وما كان لها أن تنتهي كما يشتهي صقور الحرب في واشنطن وكثير غيرهم في المنطقة ممن كانوا يعوّلون على الحرب لضمان وجودهم السياسي، وقد راهنوا على المواجهة لاستمرار دورهم الوظيفي في المرحلة الراهنة.
الخيبة المرتسمة تلك كانت الأبرز في سياق ردود الفعل المختلفة، وإن بدت في معظمها غير مطمئنة للرواية الأميركية والتبريرات التي ساقها الرئيس ترامب، والتي تتعدّل وتتغير مع كل تصريح أو تغريدة يطلقها، و«الضربة» لم تلغَ، بل تمّ تأجيلها وفق آخر ما تبين من توضيحاته، من دون أن يعني ذلك ركونه إلى تلك الرواية أو الموقف القابل للتبديل في كل لحظة.
القراءات الدولية المرحّبة بالعدول الأميركي عن ممارسة عربدتها بدت مترددة، وربما متوجّسة بحكم التجربة التي تؤشر بشكل واضح إلى أنّ الرعونة التي تتصف بها السياسة الأميركية لا يمكن التعويل عليها، وما جرى لم يكن لحسابات إنسانية كما روّج لها ترامب، بقدر ما تتعلق بالجانب العسكري واختلال موازين المواجهة لاعتبارات جغرافية وجيوسياسية مرتبطة بالتموضعات العسكرية داخل الخليج.
وهو ما ترجحه المعادلات الواضحة، وفي مقدمتها قواعد الاشتباك التي نشأت بعد المواجهة الأخيرة، حيث التي سبقتها لم تعد صالحة للاستخدام، وإن أي عدوان سيكون له ردة فعل توازيه، أو على الأقل تحدّ منه، وفي قراءة أخرى تتقدم عليه وتزيد، حيث الجغرافيا هنا ليست خارج الحسابات بالمعنى الإستراتيجي، والمواجهة لا تحدد زمانها ومكانها أميركا وحدها، ولا تستطيع أن تحسم معادلتها.
يبقى الأهم في المفهوم الإستراتيجي أن فائض القوة بدا بعد الجولة الأخيرة من المواجهة، وقد تآكل الكثير من مشاهده المعتادة، وباتت استطالاته وتورماته خارج سياق الحسابات بالمعنى التكتيكي، وصولاً إلى القناعة بأن عصا السطوة الأميركية العسكرية والتفوق يحتاجان إلى قراءة على ضوء معادلة التقنية التي رسمت إحداثيات جديدة للمخارج المتصلة، حين حوّلت خطر الوجود الأميركي إلى فرصة يمكن البناء عليها في أي مواجهة قادمة.
هذا كله لا يلغي المعادلات السابقة، ولا ينفي القراءات التي سبقت ذلك، بقدر ما يعززها في جوانب إضافية ناتجة عن غياب القرار النهائي الأميركي، الذي يحاول أن يستنفد أوراق الضغط المختلفة، مع الإبقاء على الخيارات العسكرية على الطاولة، وقد يكون تسريب تأجيل العدوان جزءاً من أدوات الضغط، بدليل أن الرئيس ترامب عاد ليوضح أنه تمّ تأجيلها فقط، لتبقى عصا للتلويح، وقد تكون مقدمة أو قصفاً تمهيدياً للاستخدام حين تنضج اللحظة.
الناتج حتى اللحظة قواعد اشتباك متحركة، وربما منزلقة مع مزيج من الانتظار المحمول على أجندات لا تزال الكثير من الأصابع تحاول أن تخطَّ عناوينها العريضة وأن تنفخ في رماد جمرها، ويصعب الجزم بالنهايات أو المخرجات.. وحدها القوة الأميركية وتفوقها والفائض منها بات تحت دائرة الضوء وتخضع لعوامل الاختبار بعد أن كانت خارج أي مقاربة، وما كان مسلماً في عرف الهيمنة يبدو اليوم أنه موضع نقاش، والاختلاف حوله مشروعٌ بكل اللغات.
a.ka667@yahoo.com
الافتتاحية بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
التاريخ: الاثنين 24-6-2019
الرقم: 17007