انطلاقاً مما شَهدته مياه الخليج أيار الماضي، حزيران الجاري، واعتماداً على رسائل التصعيد المُتبادلة وصولاً لإسقاط طهران طائرة تجسس أميركية مُتطورة جداً انتهكت أجواءها، تَكاد تُجمع أغلبية الرؤى على أن مسار الحدث بين طهران وواشنطن لن يَتوقف عند حدود الدعوة الأميركية الخبيثة للتفاوض، والرفض الإيراني لها. ولا عند حدود تبادل التهديدات بالقوة واحتمالات الاشتباك، وقد وصل دونالد ترامب إلى مُستوى مَقولة (المَحو): إنّ ضرب أي شيء أميركي بالخليج سيُواجه برد كاسح بمعنى المَحو!.
أولاً: لو كانت الولايات المتحدة قادرة على مَحو إيران أو سحق وتعطيل قوتها، لفَعَلت ذلك منذ زمن طويل، ولما كانت قَبلَت بأن تكون جُزءاً من مسار تَفاوضي طويل أنجزَ الاتفاق النووي الذي انقلبت واشنطن عليه، بل لكانت تَجرأت على فعل شيء ما، أيّ شيء، بعد إسقاط (غلوبال هوك) المُميزة جداً!.
ثانياً: لو امتلكت واشنطن دليلاً واحداً على تَورط طهران بعمليتي استهداف ناقلات النفط الأخيرتين في الخليج، لما انتظرت مجلس أمن دولي ولا شراكة أوروبية لمُهاجمة إيران ولإعلان الحرب ضدها بدعوى حماية الملاحة البحرية والتجارة الدولية، لكنها تَعرف ربما أن العالم يَضع يده على جزء من الحقيقة التي تتصل بها وبإسرائيل كطرف حَصريّ خَطَطَ للعمليتين ونَفذهما!.
ثالثاً: لماذا وصل ترامب سريعاً إلى مَقولة (المَحو)؟ هل فقط لأن طهران رَدّت على العقوبات الأميركية الأخيرة التي استهدفت رموز الدولة بمَقولة: ان هذه العقوبات أغلقت أبواب الدبلوماسية وأيّ احتمالات للحوار والتفاوض؟ هل يَتناسب هذا مع ذاك؟ ولماذا تَعتبر واشنطن ذلك مُهيناً؟ بينما يجب على طهران القبول، وتَلقي العقوبات بصمت إن لم يَكن برضىً؟.
رابعاً: (المَحو)، دعونا نَتبادل الرأي في هذه الجُزئية لنَسأل: ما هو ذلك الشيء الأميركي الذي إذا ما ضُرب فسيكون الرد كاسحاً بمَعنى (المَحو)؟ طائرةٌ مُسيّرة أُخرى؟ أم قطعة عسكرية بحرية، غواصة تَنتهك الحدود البحرية أو تُمارس العدوان وتتعرض للسيادة الإيرانية؟ أم مجموعة كومندوس على زورق حربي يَتحرشون أو يُهددون مصالح نفطية أو تجارية أو أمنية إيرانية؟.
ما هو هذا الشيء الذي قَصده ترامب؟ بل لماذا هو هناك أصلاً؟ ولماذا يَنبغي السَّماح لهذا الشيء ليَفعل ما يُهدد الآخرين داخل حدودهم؟ هل فقط لأن لدى أميركا الرغبة والدوافع لتَلعب دور شرطي العالم؟ من كَلَّفها بهذه المهمة؟ ولماذا على العالم وإيران القبول برغبتها رغم علم إيران والعالم بأن الشرطي الذي لم يُكلفه أحدٌ بذلك هو فاسد ومُتعجرف؟.
خامساً: كل الخيارات على الطاولة.. كم مرّة تكرر قول ذلك وإطلاقه في سياق التهديد؟ لماذا لم تَذهب أميركا مرّة إلى الخيار الذي تُهدد به؟ لحكمة تَمتلكها ويُنكرها العالم ولا يرى إلا نقيضها؟ أم لعَجز تَستشعره؟ أم لانعدام الثقة بجدوى الخروج من ذلك بانتصار؟ أم لأن الهزيمة تَبدو لها واضحة كما الشمس في ظهيرة يوم صيفي ساخن؟ لماذا تتردد بمُمارسة ما تَدعيه كذباً ونفاقاً من تحقيق غايات حماية الأمن والسلام والاستقرار بالمنطقة من الخطر الإيراني المَزعوم؟ ولو كانت مُحقة ومُقتدرة وصادقة فيما تقول من أنّ العالم يُشاطرها المَخاوف وسُبُل تَبديدها، فلماذا تَجبُن؟.
أخيراً: لا تُحرج هذه التساؤلات أميركا، لا تُعريها فقط، بل تُقوي مَنطق سيادة القانون، وتُصلب مَوقف إيران كطرف مُستهدف، فضلاً عن أن ذلك يُصلب موقف أطراف وازنة داخل مجلس الأمن الدولي، الصين وروسيا، وخارجه عشرات الدول على امتداد العالم. ولهذا فإنّ ما يَجري في الخليج، وبين طهران وواشنطن هو أعمقُ من تَفاوض، وأوسعُ من اشتباك ثُنائي، فأميركا تُصادر الخليج، تُسيطر عليه، تَنهب ثرواته، تَضعه حيث تَشاء في حضن الصهيونية أم إلى جانبها هي – لا فرق – ولا أحدَ يُزاحمها، أما أن تَلتهم المنطقة بأكملها، وأن تَفرض عليها إرادتها، وأن تَجعلها تَستسلم وتَخضع، فعليها أن تَختبر قُدراتها من جديد قبل أن تَتهور!.
علي نصر الله
التاريخ: الخميس 27-6-2019
رقم العدد : 17010