ربما لم يُتح لنا في هذا الشرق المعني بالكثير من الأمور غير الثقافة والفكر والإبداع, لم يُتح لنا أن نكون على قدر كافٍ من الاهتمام بكتّابنا ومفكرينا ومتابعة أمور حيواتهم ; والالتقاء بهم حيث يعملون ويكتبون ويفكرون, وحضور ندواتهم, هذه أمور ليست بحالها الصحيح إلا قليلاً, ولكن هذا لا يعني أننا مقصّرون تماماً بهذا الشأن أبداً، وهنا أتحدث عن تجربة شخصية منطلقها العمل الصحفي بالشأن الثقافي بجريدة الثورة.
فقد أتاح لي هذا العمل بحكم كونه من صحيفة لها عراقتها, أتاح لي ولزملائي أن نلتقي كبار كتاب الوطن العربي ممن استطعنا الوصول إليهم, من: محمد أركون, إلى رجاء النقاش ومحمد برادة وحليم بركات, وهارون هاشم رشيد، وعبد الله عبد الدائم, وفاخر عاقل, وسليمان العيسى، وناديا الغزي, وعفيف بهنسي, وقتيبة الشهابي, ومن في القائمة من أسماء مهمة كان لنا النصيب أو الحظ الجميل أن نعيش معهم ساعات في حوارات عامة حول تجاربهم, وفي منازلهم.
من هنا كانت الألفة التي ربطتنا بالكثير من المبدعين السوريين, ممن هم فعلاً ملء القلب والعين والسمع والبصر, ومثال على التواضع والقدرة على العطاء.
ونعترف أن كثيرين لم يوفقنا أو يحالفنا الحظ بأن نكون معهم ولو لساعات لأسباب كثيرة, في مقدمتها ما جرى على سورية من حرب عدوانية شتّتت الشمل وفرّقت الناس, ولكن هذا لا يعني أننا أهملنا متابعة شأن كتابنا ومفكرينا, بل فعلنا ما نستطيع أن نفعله في وقت غدا فيه الحرف تهمة والعمل بالشأن الثقافي متعباً حد القهر أن ترى كل شيء يمكن أن يبذل له المال ويعطى إلا الثقافة وبناء الوعي, أن ترى ثمة من يأتي ليدمر تراثك وفكرك وحضارتك، ويستبدلها بأمر آخر طارئ هجين, وبالوقت نفسه تقف عاجزاً عن فعل ما يمكنك فعله لأسباب كثيرة لسنا بصددها الآن, ربما سيأتي يوم ما ونكتب إن قُيِّض لنا ذلك.
في الجعبة الكثير عن هؤلاء المبدعين السوريين الذين مضوا ورحلوا, وآخرهم أستاذتنا الدكتورة ملكة أبيض المربية والمترجمة المهمة جداً, ورفيقة كفاح سليمان العيسى, وقد أطلق عليها اسم سمراء حلب, ملكة أبيض التي تعرفت إليها منذ كنت طالباً بمرحلة الدبلوم التربوي ومن بعده الدراسات العليا, وهي المربّية الصارمة التي لا تأبه لأي أمر إلا القيم العلمية والتربوية, في بيتها عشرات المرات كانت اللقاءات إلى طاولة الراحل الكبير سليمان العيسى, تقدم فنجان القهوة بيدها, أبتسم وأقول: أستاذتنا.. ترد: أنتم الآن أبنائي, في ضيافتي, بل في بيوتكم, في جعبتها الكثير مما أنجزته لها ولشاعرنا الراحل, من حيث ترتيب أعماله وجمعها, وإعدادها للنشر, فقد كانت الوفيّة على ذلك، وخير من رعى تراثه حيّاً وراحلاً, وقد أشار سليمان العيسى إلى ذلك مراتٍ ومرات في حواراته حين كان يقول: مدين لها بما قدمته, وكم كانت كوليت خوري رائعة حين شاركت بكتاب عن سليمان العيسى, وذلك حين نال جائزة اللوتس العالمية, وكان العنوان لافتاً: وعند سليمان ملكة, نعم عند سليمان ملكة, وفي كل مدينة سورية ملكة وسليمان, ومبدعون كثيرون نتوق أن نزورهم في منازلهم, نعود إلى نبض ذلك الفعل الباقي في القلوب والخالد حبراً وعطاءً.
ديب علي حسن
التاريخ: الجمعة 28-6-2019
رقم العدد : 17011