لم يحظَ حدث سياسي باهتمام كبير منذ ظهر إعلامياً كصفقة القرن، فما إن أطلق المصطلح منذ حوالي سنتين حتى تناولته وسائل الإعلام والساسة بالتحليل والشرح وتوضيح المخاطر المترتبة على القضية الفلسطينية جراء تحقق تلك الصفقة التي انتهى أكثر القارئين لها إلى أنها مشروع تصفية للقضية الفلسطينية وإغلاق لملف فلسطين وسحبه من التداول وعلى الرغم من أن المصطلح قد أطلق إعلامياً وسياسياً ومع ذلك لم يتم الحديث من أي جهة كانت سواء الإدارة الأميركية أم غيرها عن مضامين تلك الصفقة وآليات تنفيذها ما أطلق العنان للمخيلة السياسية في مقاربة عناصرها ومضامينها وغاياتها، وما إن تم الحديث عن ورشة البحرين الاقتصادية وتحديد زمان انعقادها ومضمونها من حيث المبدأ والذي عنون بمحتوى اقتصادي تحدث عنه مستشار الرئيس الأميركي كوشنير محدداً مبلغ خمسين مليار دولار لإقامة مشاريع اقتصادية في فلسطين وبعض الدول العربية الأخرى لجهة تحقيق (سلام اقتصادي) حتى ارتفعت وتيرة التنديد بالفكرة والصفقة معاً حيث تصدت وسائل الإعلام المقاوم لها كان لوسائل وكان لها دور كبير في تشكيل تصور ووعي معين لدى قطاعات واسعة من الرأي العام حول طبيعة ومضمون ما سمي صفقة القرن وتبيان مخاطرها على القضية الفلسطينية وأهدافها البعيدة وما يرتبه ذلك من تداعيات خطيرة على دول المنطقة وشعوبها والحقوق التاريخية لأبناء الشعب العربي الفلسطيني الأمر الذي ساهم في تعبئة الرأي العام ضدها رافقه على التوازي حراك حقيقي في الشارع العربي ساهم إلى حد كبير في وضع حد لعدم انخراط العديد من الدول العربية أو مشاركة رفيعة المستوى فيما أطلق عليه ورشة البحرين التي اقتصرت على حضور خجول ومحدود من قبل بعض رجال الأعمال أو موظفي تكنوقراط في مفاصل الوزارات والإدارات الحكومية في الدول المشاركة ما يعني بالمحصلة أن ما جرى الإعداد له وتوقع حدوثه من قبل المنظمين والداعين للفكرة لم يتحقق وهذا باعتقادنا نجاح يسجل للقوى التي واجهت تلك الصفقة وتصدت لها منذ الإفصاح عنها قبل حوالي سنتين.
وبنظرة موضوعية لتحليل أسباب ما حصل من تعثر مبدئي للصفقة وهو باعتقادنا نجاح يسجل للقوى السياسية والتنظيمات التي تحركت وحركت الشارع بقدر ما هو نجاح يسجل لوسائل الإعلام التي تصدت منذ وقت مبكر لفكرتها واستطاعت أن تجعل منها قضية رأي عام فرضت نفسها على الجميع بما في ذلك المستويات السياسية ومراكز القرار في النظام الرسمي العربي ودائرة الاهتمام الإقليمي والدولي بالقضية الفلسطينية ذلك التعاطي الإيجابي والواعي من بعض وسائل الإعلام وهنا تقتضي الموضوعية الإشارة إلى الإعلام السوري وقناة الميادين والمحطات الفضائية التابعة لمحور المقاومة والصحافة المكتوبة وشبكات التواصل الاجتماعي التي لعبت دوراً كبيراً في هذا المجال يضاف إلى ذلك ما قامت به المنظمات القومية العربية كالمؤتمر القومي العربي وقوى المقاومة بتصنيفاتها ومشاربها السياسية المختلفة التي التأمت في لبنان وسورية بهدف استجماع الرصيدين الوطني والقومي وحشدهما في الشارع لجهة إعطاء رسائل لمن يعنيهم الأمر بمخاطر تلك الصفقة وتعارضها مع المصالح العليا لأبناء الأمة ولا سيما قضية العرب المركزية القضية الفلسطينية حيث شكل الموقف الموحد منها ولأول مرة قاسماً مشتركاً أعظم لمجمل تلك القوى المشار إليها.
إن النجاح الذي تحقق مبدئياً يمكن إرجاعه لما يلي:
١- الوعي المبكر لمخاطر صفقة القرن على القضية الفلسطينية وشعوب المنطقة على وجه العموم وهو ما ساهمت في تشكيله وسائل الإعلام المقاوم عبر استضافتها لنخب فكرية وسياسية مقنعة للمشاهد والمنتديات الفكرية والثقافية التي نظمتها بعض القوى السياسية العاملة على الساحة العربية وخاصة في دمشق وبيروت حيث جعلت منها كما أشرنا قضية رأي عام إضافة إلى تشكيل وعي مطابق لمخاطر الصفقة ما بين الجمهور والنخب الفكرية وتداعياتها السلبية على أبناء المنطقة وشعوبها وهنا تجدر الإشارة لما جاء على لسان السيد الرئيس بشار الأسد في مقتبل الأزمة في سورية حيث قال إن إحدى مشكلاتنا نحن العرب تكمن في الوعي المتأخر للأحداث وعدم استبصار مخاطرها في حينها، فالوعي المبكر لمخاطر الصفقة ساهم إلى حد كبير في تعطيل وفرملة آليات تحركها لجهة تحقيق أهدافها.
٢- إن رفض القوى الفلسطينية بشكل كامل للصفقة وعدم حضور ورشة البحرين ساهم في الحيلولة دون إعطاء غطاء فلسطيني لها وهذا موقف تاريخي يسجل للقوى الوطنية الفلسطينية يمكن البناء عليه مستقبلاً لتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية على قاعدة الثوابت الوطنية والميثاق الوطني الفلسطيني إضافة إلى أن هذا الموقف الموحد حال دون انخراط العديد من الأنظمة العربية أو القوى الوازنة سياسياً في حيثيات الورشة ما أضعف من محصلتها السياسية على الرغم من عنوانها الاقتصادي المخادع والمضلل.
٣- إن الحراك الواسع للشارع العربي الرافض للصفقة ساهم في إعادة الاعتبار إليه ليضعه السياسي في حساباته إضافة إلى أن مساحة وحجم ما جرى على مستوى الساحة العربية من المحيط إلى الخليج يشير إلى أن محاولات (فك الارتباط) ما بين فلسطين وضمير أبناء الأمة لم تحصل على الرغم من كل ما جرى من إرهاب ومشكلات لأغلب الدول العربية ولا سيما سورية رأس محور المقاومة واستهداف إيران لجهة حرف بوصلة الصراع عن وجهتها الأساسية فلسطين وفي القلب منها مدينة القدس.
٤- إن الانتصار الذي حققته سورية على المشروع الأميركي الصهيوني وذراعه الأساسية التنظيمات الإرهابية وبدعم ومساندة من محور المقاومة واتحاد روسيا وثبات القيادة الإيرانية في مواجهتها مع الولايات المتحدة الأميركية وما شهدته غزة والضفة الغربية والجولان العربي السوري من مواجهات ومقاومة للاحتلال انعش وعزز الأمل في الشارع العربي ومنحه المزيد من الثقة بالنصر والرهان على الفعل والموقف المقاوم وعلى المقلب الآخر أضعف محور الاستسلام والخنوع وعزله شعبياً ما جعله مشلولاً سياسياً وغير قادر على الغوص أكثر في مستنقع التنازل واستلاب الإرادة السياسية والتفريط في القضايا السيادية ومصير ومصالح أبناء الأمة وشعوبها.
والحال: إن النجاح المبدئي في مواجهة أول خطوة في (مسلسل أو مسرحية صفقة القرن) وفرملتها يعزى من وجهة نظرنا إلى جملة العناصر التي تمت الإشارة إلى بعضها من وعي مبكر لمخاطر الحدث إلى توحيد المواقف لأطراف محور المقاومة إلى العقل الإعلامي الذكي الذي تعاطى بحرفية وذكاء مع الحدث واستقطب النخب القادرة على التحليل والإقناع وتشكيل الوعي والموقف، إلى الحراك الذي قامت به المنظمات القومية في سورية ولبنان، إلى الرفض الفلسطيني للصفقة، إلى استعادة الشارع العربي كقوة ضاغطة على مستوى القرار السياسي، ويبقى الارتكاز والنواة الصلبة لكل ذلك هو الانتصار الذي حققته سورية بفضل ثبات إرادتها السياسية وتضحيات جيشها وشعبها وتلاحم وتكاتف محور المقاومة ومنظومته الممتدة لروسيا والصين وقوى التحرر في العالم.
khalaf.almuftah@gmail.com
د. خلف المفتاح
التاريخ: الاثنين 1-7-2019
الرقم: 17013