المثقف العربي وقلق الحداثة

الملحق الثقافي:ناظم مهنا:

لو حاولنا أن نقرأ في حقبة الحداثة وعلاقتنا نحن العرب بهذه الحقبة المصيرية، لعلنا نتلمس أين أصبنا وأين أخطأنا، كأمة ونخب وأفراد…
بداية، وبلا مقدمات، أعتقد أن إجراءات الحداثة فرضت نفسها على العالم من حيث طرائق مناهج العلم والتفكير العلمي القائم على المنطق والتجربة والتحليل والتركيب، والحداثة كانت نهاية مرحلة عالمية وبداية مرحلة جديدة، وأن المثقفين العرب، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وما بعده أظهروا استجابة واضحة مع التحدِّي العالمي في التفاعل سلباً أو إيجاباً مع العصر الحديث والانفتاح القسري والإرادي على الغرب الذي أنتج هذه الحقبة الحديثة، وأنهى العالم القديم الذي يطلقون عليه العصور الوسطى. لكن هذه الاستجابة كانت متفاوتة بين الحماس الشديد إلى درجة (التغريب) والرفض أو التحفظ في القبول، أو القبول بحذر خوفاً على الهوية والتراث، وفي بعض الأحيان خوف القوى التقليدية من هذا الجديد الداهم والقوي، وكل موقف له مسوغاته النفسية والتاريخية والمصلحية أحياناً، وكان الامتزاج الحضاري الكلاسيكي القديم السوري اليوناني، قد مهَّد لإنسان الأفق الجديد، أو إنسان العهد الجديد الذي بشر به يسوع الناصري والنبي محمد، ثم انتشر كرسالة في العالم.
من وجهة نظري الشخصية، منذ أن تم الاحتكاك المباشر مع الحداثة، كان علينا نحن العرب أن نقبل هذا التحدي دون حماس في القبول أو تعنت في الرفض، من خلال التفكير النقدي، وكنا بذلك قد قطعنا الطريق على الانشقاق الثنائي العمودي الحاد بين المجددين والمحافظين أو التقليديين، وهو انشقاق قديم ظل يتجدد بصور ومراحل متتابعة.
ففي رأي بعض نقاد الحداثة الغربيين ولاسيما «هنري لوفيفر»، الحداثة حركة لا يمكن شجبها بكاملها، ولا يمكن الانتماء إليها بشكل غير مشروط. وإنما محاولة طرقها على هيئة تساؤل، أو مساءلة.
كُتب كثيراً عن الحداثة في الغرب وفي الشرق، إلا أنه حتى اليوم لا يوجد مفهومٌ شاملٌ يتفق عليه الناس حول الحداثة. عندنا نحن العرب استخدمت المفردة منذ القرنين الثاني والثالث الهجريين على أنها عكس القديم أو تقابل القديم في المعنى، وأطلق الرواة ونقاد الشعر على الشعراء المجددين المحدثين أو المولدين الذين ولَّدوا صوراً وعلاقات جديدة في اللغة الشعرية وخرجوا على عمود الشعر العربي المتعارف عليه وعلى هيكل القصيدة العربية القديمة… والمبدعون العرب القدماء، أبدوا فهماً عميقاً لما يستجد في الزمن، ولعلكم تذكرون نصيحة الإمام علي حول عدم قسر الأبناء، لأنهم ولدوا لزمن غير زمن آبائهم.
في لسان العرب، مادة: (حَدَثَ) الحديث نقيض القديم، والحدوث نقيض القدمية، وحدث الشيء يحدث حدوثاً وحداثة، وأحدثه هو فهو محدث وحديث وكذلك استحدثه. والحدوث أن شيئاً لم يكن، وحدث أمر أي وقع، ومحدثات الأمور: ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء التي كان السلف الصالح على غيرها… إلى آخر المادة التي لها معانٍ متناقضة.
الحداثة الغربية، بوصفها مواكبة للثورة العلمية، أعلت من شأن نسبية الحقيقة، وقدمت مفهوماً جديداً للدولة الحديثة، وأعلت من شأن الدنيوي واليومي، وجعلت الإنسان مركزاً في التاريخ وفي الفاعلية، وأعلت من شأن النقد أيضاً، ومن ميزات الحداثة التي تجلَّت في الوضعية التي أسسها الفرنسي أوغست كونت (1798-1857م) الواقعية، والعقلانية، ونقد الميتافيزيقيا والغيبيات نقداً مُركزاً، وعدُّ الإنسان محورياً في التاريخ والطبيعة. لكن، يبين لنا نقاد الحداثة أن الوعي الحديث يحتوي على عناصر من اليقين ومن اللايقين، متساوية في جدتها ومتساوية في نزقها أيضاً، ومن هذه الحداثة المتناقضة مع نفسها، يبدو الوعي الحديث وكأنه «صالة انتظار لمجيء الكلاسيكي» هنري لوفيفر. إذاً، الكلاسيكي لم يندحر تماماً من ثنيات الحداثة.


كانت الحداثة تعبيراً عن نهاية حقبة طويلة، من العلاقات القديمة ومن الإقطاعية، وبداية مرحلة أو عصر جديد، عصر البرجوازية. وربما كان على نخبنا النبيلة أن تعترف منذ البداية، دون عقدة نقص، بحقيقة أن العالم، من مركزه الأوروبي، قد أنهى العصر القديم، وبدأ عصراً آخر، كان علينا أن نكون حاضرين فيه ومتفاعلين معه بدافع الضرورة والواقعية والمصلحة، دون حساسية مفرطة، وهذا ما فعله اليابانيون في ظروف مشابهة لظروف العرب. وكان علينا أيضاً ونحن داخل هذا العصر أن نواجه الاستعمار الذي جاءنا على حصان الحداثة.
وبصرف النظر عن كتابات أنصار الحداثة العرب المتناقضة عن الحداثة وفهمهم لها، إلا أن المفارقة أن الجدل الصراعي طال أكثر مما يجب، ولا يزال أواره يشتد حتى يومنا هذا، على الرغم من وجود اعتقاد عن بعض الغربيين أن حقبة الحداثة قد انقضت. ونحن لا نزال نتصارع بالحمية نفسها والخلاف لا يزال على أشده حول ثنائية التراث والتجديد، الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد، والتناقض الذي يتحوّل إلى استقطاب حاد وعدواني هو تعبير عن ضياع المنطق والرؤيا، ويعزز هذه الحال التنابذية التدخلات والمصادر الخارجية التي هي خارج الذات، وخارج الموضوع. ومأساة دعاة الحداثة الأدبية عندنا، مزدوجة؛ إذ بدا بعض نخبنا وهم يقلدون الغرب الذي أعجبوا به وبإنجازاته وقيمه، وكأنهم يؤيدون استعمار أوطانهم من الأجنبي الأوروبي، وفي الوقت الذي كانوا يعتقدون أن قيم الحرية والتقدم والعدالة آتية مع الغرب تصلح لأن تكون قيماً كونية تتساوى فيها الشعوب والثقافات، يتكشف لهم كل يوم كم كانوا مخدوعين بهذا الغرب الذي لا يريد أحراراً ولا نخباً حرة في الشعوب المستعمرة، بل مجرد عملاء تابعين ومروجين يرددون أفكار كتابه ويجترون قيمهم وثقافتهم دون انتقاد أو تشكيك. وكان أيضاً بالإمكان أن تبقى القوى المعاندة ضد الغرب وضد الاستعمار، مستمرة في مواجهة تطرف الحداثة ونزقها، ومواجهة الاستعمار في الوقت نفسه، وسيكون هذا وطنياً لا غبار عليه، بل أمراً محموداً من كل الوطنيين. لكن يبدو لي أن المروجين للحداثة وللغرب كما المعاندين كل منهما وقع في خطأ أحادية المواقف الحادة.
نحن سكان أطراف العالم الرأسمالي، تم تحويل نخبنا إلى مثقفي مستعمرات بدلاً من أن تكون معركتهم من أجل الانتقال السلس إلى العالم الجديد، والخروج من الجمود والركود، وجدوا أنفسهم ضحايا الخداع الغربي والأوهام والخيبات من جهة، وقد احتلت أوطانهم من الأجنبي! أما الطرف المعاند فقد كانت قوة القادم أقوى من إمكاناته، ومن تقوقعه، وكان على نخبنا العربية في النهاية أن تخسر مع شعوبها، وتلقى مصيراً مأساوياً، وهي اليوم في أقصى حالات العزلة والتبعية أو انعدام الفاعلية. على الرغم من التضحيات والإنجازات العظيمة والمقدرة. والمفارقة، أن المحدثين والمحافظين، ومهما بدا بينهما من تناقض وعداء وقعوا معاً في جملة التبعية بالمقدار نفسه، لأن عصراً قد انتهى ومضى وجاء عصر جديد فرض نفسه بالقوة الخشنة أو الناعمة على العالم كله!
انقسمت النخب العربية على نفسها منذ البداية، وتناحرت وتمترست وتحاربت واستقوى بعضها على بعضها الآخر. وكانت خيبة المجددين كبيرة، ومصيرهم المأساوي مضاعفاً، بسبب الآمال التي علقوها على الحداثة الأوروبية، فالغرب الاستعماري يؤكد لنا كل يوم بممارساته أنه لن يسمح لشعوبنا بالعبور أو بالخروج من الماضي ومن التخلف والتبعية له. وبالفعل، كما شهدنا في الحرب على بلدنا، مارس الغرب كل أشكال استثمار العلاقات القديمة من أجل التفتيت والهيمنة والاستغلال المتوحش. وهكذا بعد مرور قرنين أو أكثر على حقبة الحداثة، ونحن على أبواب مرحلة جديدة غير واضحة المعالم، أو أهم معالمها الفوضى الشاملة، ما زالت الموضوعات التي شغلت النخب العربية في القرن التاسع عشر هي نفسها، والإشكالات التي واجهوها نفسها، والمفردات واللغة هي نفسها، ولاتزال تتداول بشكل محموم مفردات الأزمة الموروثة من مطلع عصر الحداثة عن علاقة الشرق بالغرب، والسفور والحجاب، والحداثة والتقليد، و»المثقفون (العلمانيون) ما زالوا ينادون بالتنوير والعقلانية، متوجهين إلى شعوب ما عادت تسمع أو تفهم ما يقولون، وإلى أنظمة حكم لا تأبه بهم، وغرب لا يهمه أمرهم، ولا يراهم إلا كعملاء تابعين» اقتباس بتصرف من كتاب «المثقفون العرب والغرب» لـ. هشام شرابي. وأنا اليوم أتساءل بحيرة: لماذا ارتبطت الأصالة بالماضي؟ هل كان فهماً خاطئاً للزمن ناتجاً عن القلق والخوف؟
كان الشاعر الفرنسي الحداثوي بودلير يرى «أنَّ الأصالة، كل الأصالة تقريباً تأتي من الميسم الذي يطبعه الزمن على أحاسيسنا».
لا عداء بين الحداثة والأصالة، لكن نخبنا العربية افتعلت عداء لغوياً أو وهمياً ما لبث أن تحول إلى وعي زائف.
لكن، هل من مخرج؟ لا بد أن نبتكر مخرجاً، يبدأ بفهم جديد للذات وللزمن وللغة، للخروج من الانسداد الحضاري الذي وقعنا فيه منذ نهاية القرن الرابع الهجري، وظل يتفاقم إلى يومنا هذا، وعلى الرغم من كل هذا الانسداد لا بد من التفاؤل، ولا مفر من الأمل وفتح آفاقٍ جديدة.

 التاريخ: الثلاثاء23-7-2019

رقم العدد : 17031

آخر الأخبار
بعد قرارات ترامب.. الجنيه المصري يتراجع إلى أدنى مستوياته الأمم المتحدة تحذر من انعدام الأمن الغذائي في سوريا.. وخبير لـ" الثورة": الكلام غير دقيق The Hill: إدارة ترامب منقسمة حول الوجود العسكري الروسي في سوريا أهالٍ من حيي الأشرفيّة والشّيخ مقصود: الاتفاق منطلق لبناء الإنسان تحت راية الوطن نقل دمشق تستأنف عملها.. تحسينات في الإجراءات والتقنيات وتبسيط الإجراءات وتخفيض الرسوم نظراً للإقبال.. "أسواق الخير" باللاذقية تستمر بعروضها "التوعية وتمكين الذات" خطوة نحو حياة أفضل للسّيدات تساؤلات بالجملة حول فرض الرسوم الجمركية الأمريكية الخوذ البيضاء: 453 منطقة ملوثة بمخلّفات خطرة في سوريا تراكم القمامة في حي الوحدة بجرمانا يثير المخاوف من الأمراض والأوبئة رئيس وزراء ماليزيا يهنِّئ الرئيس الشرع بتشكيل الحكومة ويؤكِّد حرص بلاده على توطيد العلاقات مصير الاعتداءات على سوريا.. هل يحسمها لقاء ترامب نتنياهو غداً إعلام أميركي: إسرائيل تتوغل وتسرق أراض... Middle East Eye: أنقرة لا تريد صراعا مع إسرائيل في سوريا "كهرباء طرطوس".. متابعة الصيانة وإصلاح الشبكة واستقرارها إصلاح عطل محطة عين التنور لمياه الشرب بحمص علاوي لـ"الثورة": العقوبات الأميركية تعرقل المساعدات الأوروبية السّورية لحقوق الإنسان": الاعتداءات الإسرائيليّة على سوريا انتهاك للقانون الدّولي الإنساني سوريا تواجه شبكة معقدة من الضغوط الداخلية والخارجية "اليونيسيف": إغلاق 21 مركزاً صحياً في غزة نتيجة العدوان "ايكونوميست": سياسات ترامب الهوجاء تعصف بالاقتصاد العالمي