الملحق الثقافي:د. محمود شاهين:
تنحدر الفنون التشكيليّة من أسرة الفنون الجميلة التي تضم بالإضافة إليها، كلاً من: العمارة، والشعر، والموسيقى، وبعض أنواع الرياضة. ينبثق من صلب الفنون التشكيليّة: الرسم والتصوير بالألوان الزيتية أو المائيّة أو الترابيّة (الغواش) والنحت والحفر المطبوع وفنون الكتاب والملصقات والفنون (الغرافيكيّة) بشكل عام، ولكل ضرب من هذه الفنون، مواد وخامات وتقانات ووسائل تعبير خاصة به، بدأت طبيعيّة بسيطة يقوم بإعدادها وتحضيرها الفنان نفسه، ثم تطورت مع تطور الإنسان والآلة والتكنولوجيا، فأصبحت تُصنع آلياً، من مواد وخامات مختلفة، طبيعيّة وصنعيّة. غير أن نسبة استفادة الفنون التشكيليّة المعاصرة، من إفرازات التكنولوجيا الحديثة تباينتٍ إلى حدٍ بعيد، من فن لآخر، تبعاً لخصوصية هذا الفن وقابليته على التجاوب مع التقانة الحديثة، ومقدرته على تمثلها والاستفادة منها، دون أن يتخلى عن ماهيته، أو يفقد قيمه الشكليّة والدلاليّة.
بمعنى آخر: تلقفت بعض أجناس الفن التشكيلي المعاصرة، العديد من المواد والتقانات الجديدة، وقامت بتوظيفها لتطوير بنيتها الشكليّة والدلاليّة، بينما كان تفاعل وتجاوب بعضها الآخر معها، محدوداً وضعيفاً، نتيجة لعدة أسباب، أهمها وأبرزها، عدم قابلية هذه الفنون للتجاوب مع مواد جديدة، كونها في الأساس، محكومة بجملة من النظم والقوانين المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بموهبة مزاولها، ومدى خبرته ومقدرته، على التعامل معها.
بغض النظر عن طبيعة وتنوع وسائط تعبير الفنون التشكيليّة، يبقى الخيال قرينة وجودها، والإبداع والابتكار والتجديد أهم مظاهرها، والموضوعات التي تتناولها، نتاج تفاعل وعي مزاولها مع ما يجري حوله، من جهة، ومع ما يختزنه في ذاكرته من موروث ثقافي واجتماعي، من جهة ثانية، وهذه الخصائص مجتمعة، هي ما تميز الفنون التشكيليّة عن الفنون التطبيقيّة، والحِرف، والمشغولات اليدويّة التقليديّة، المحكومة بآلية التكرار والاستنساخ شكلاً ومضموناً.
كان الخيال وما يزال، قرينة الإبداع، وأبرز وأهم روافعه، وتالياً من أبرز خصائصه. ولعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا، إن كل مهمة الفن تنحصر في خلق عالم خيالي مبطن بالوعي، تكون وظيفته الأولى أن يجيء مخالفاً بوجه من الوجوه لهذا العالم الذي نحيا فيه، لكن الخيال لا يكفي وحده لتشكيل هذا الواقع والنهوض به، وإنما يحتاج إلى رافعة الوعي التي يغذيها الماضي والحاضر، ويقطف حصادها المستقبل.
بمعنى أن الخيال وحده لا يكوّن الفن، وليس بمقدور العاطفة لوحدها، بناء العمل الفني شكلاً ومضموناً وتعبيراً، ذلك لأن الفن لا يقتصر على الوجدان والعاطفة، ولا على الحلم والخيال، وإنما هو أيضاً، تقانة، وصناعة، وإنتاج، ومهارة، وحرفة. أي من غير الممكن خلق الفن، بمعزل عن وجود إمكانيّة وقدرة، على تنظيم الخيالات والأحلام وتجسيدها في مادة ملموسة. بمعنى أنه لا بد لتحقيق الفن من أن يقترن بنشاط تركيبي إبداعي. وهذا النشاط تحديداً، هو الأساس الذي ينهض عليه العمل الفني الذي اختلفت النظرة إلى ماهيته ووظيفته. فهناك من نظر إليه على أنه تجسيد للإحساس والعاطفة، أو فسره اعتماداً على كونه مجرد لهو ولعب، أو اعتبره نوعاً من عملية خلق للصور، أو تعبيراً عن الخيال، أو أنه حاضن لإلهام الفنان وانفعالاته ومزاجه وإحساسه بالقيم ودرجة وعيه لما يدور حوله. وهناك من نظر إليه على اعتباره مجرد تعبير عن الماهيات. في الحقيقة، ورغم تعدد الآراء واختلافها، حول ماهية الفن وغايته، يمكن التأكيد على أن الفن ليس أحلاماً وخيالاً، وإنما هو امتلاك لناصية الأحلام، وتحقيق للخيال، بهذا الشكل أو ذاك، وبهذه التقنية أو تلك، فالإبداع الفني كما يراه بعض علماء الجمال: (عملية بطيئة، لا مجرد إلهام مفاجئ، فالقانون الأسمى في عملية الابتكار البشري هو أننا لا نخترع شيئاً إلا بالعمل). بل ويجزمون بأن الفن صناعة وعمل ووعي أكثر مما هو حلم أو تخيل، بدليل أن كثيراً من الفنانين لم يكونوا يتمتعون بخيال أكبر مما يتمتع به بعض العامة من الناس!!
بالمقابل، يؤكد بعضهم الآخر بأن الفنان (بغير البصيرة الغنية بالخيال، إنما يرسم سطوحاً. قد تكون صورة بارعة، سليمة من كل خطأ، مشحونة بأعنف العاطفة، وقد تحظى بأرفع المدح، ولكنها تبقى رسما ًسطحياً. وكذلك شأن الرجل الذي ينظر إلى الرسم بدون الخيال: لن يرى إلا سطوحاً، حتى لو نظر إلى الروائع) ذلك لأن أقوى المخيلات تعجز أحياناً، عن اختراق كنه الرائعة الفنيّة، لأنها امتزجت بالخيال والحلم والواقع في آنٍ معاً. والخيال الذي يُعتبر أهمّ المقدرات وأشدها إنسانيّة، هو أيضاً، مقدرة الفنان الخاصة، وهذا السبب الرئيس في عمق وتنوع طرائق نظرة الفنانين إلى الأشياء، هذه النظرة التي تشكلها عيون الجسد وعيون الخيال، بنوع من التماهي الساحر الذي يصعب معه الفصل بينهما.
ويضيفون مؤكدين على أن قوة التخيل الكبيرة، هي التي تميز العبقريّة عن الموهبة، وأما الوهم والتزيين، فعناصر ضعيفة، قد تطفو على حفافي الأشياء لكنها لا تذهب أبعد من القشرة، وحده الخيال يفعل ذلك، حيث يغوص وبعمق، إلى داخل الأشياء، بحثاً وتنقيباً عن الجوهر، متنقلاً بين الذات والموضوع، ومساهماً إلى حد كبير، في خلق ماهية الذهن وتركيبته، ومن خصائص الخيال، قيامه بالتجريد، ومساهمته في المواضيع وهي مجسدة، وبناءً عليه، فإن الأعمال الفنيّة العظيمة والمدهشة المتسمة بخصب الخيال، قد تكون حرة، مجردة، وموضوعيّة، عفويّة، وواعيّة في أنٍ معاً. ويتساءلون: هل يمكن للروح العلميّة والتقانيّة هدم الخيال في الفنان أو إضعافه؟ أو بتعبير آخر: هل تتعارض معه؟ في الإجابة على هذا التساؤل، تختلف الآراء ووجهات النظر، حيث يذهب بعض علماء الجمال والفلاسفة إلى التأكيد على أن نمو الروح العلميّة، وتنامي الوعي، سيوقف نمو الخيال، وأن عهد العلم الذي سيخلف عهد الأساطير والأديان سيكون عهد البرودة، غير أنهم يستدركون مؤكدين على أن الفن نفسه هو ضرب من العلم العفوي، وليس الفن العظيم أحلاماً فارغة، عقيمة إلى الأبد. فالأفكار العظيمة، التي تدور في خلد الفنانين ووعيهم، نوافذ تطل على الحاضر أو المستقبل، وما كان لها أن تُحدث فينا أي تأثير لو أنها مجرد أحلام خياليّة غريبة عن الواقع كل الغرابة. إذاً لا بد من تماهي الواقع بالخيال، وتآلف التقنية مع أدوات التعبير، في المنجز الفني، ليصبح قادراً على التأثير في المتلقي.
فالفاعلية الفنيّة (كما يراها البعض) فاعليّة بديلة، وهي الأصل لجميع التخيلات التي يفرضها الواقع والثقافة، ذلك لأن الإنسان لا يُحسن التخلي عن شيء، لا عن لعب الطفولة، ولا عن رغباته التي لم تكن مع ذلك أبداً موضوع إشباع إن لم تكن بصورة استيهامية. فالحلم والحلم المُستثار واللعب، والفن بدائل أصيلة. والخيال فاعلية بديلة ثانويّة تعويضيّة عن الواقع عندما يصبح الواقع سيئاً، ولا بد لمفهوم الوسيط من أن يُفهم بالمعنى الزمني، وبمعنى التوسط بين مبدأي العمل الوظائفي النفسي اللذين يجدان نفسهما موحدين ومتصالحين على نحو ثانوي بفضل الخيال، على الرغم من أنهما منفصلان في البدء. وهكذا إن للفن أسلوبه الخاص في التوفيق بين الواقع والخيال، والوعي والعفويّة، والفنان في الأصل رجل يُشيح بوجهه عن الواقع لأنه ليس بوسعه أن يقبل التخلي عن الإشباع الدافعي الذي يقتضيه هذا الواقع أول الأمر.
مع ذلك فإن الفن ليس خيالا،ً بمعنى أنه ليس نزوات هوجاء للمبدع، وإنما تجسيد لحكمة حياتيّة ضخمة، ولخبرة الشعب العظيمة، ووعي الأجيال الإنسانية التقدميّة، وفي هذا سر سلطة الفن الحقيقي على الناس، إنه يرفع الإنسان، ويقوي روحه، ويُوُقظ أفكاره، ويزيد من وعيه. وهو وسيلة جبارة لخلق كل ما هو إنساني حقاً في الإنسان، كما يراه الاشتراكيون الذين يؤكدون في الوقت نفسه، على أن عاطفيّة الفنان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بقدرته الخارقة على الملاحظة، وأنه من الخطأ أن نفكر أو نعتقد، أن الفنان عاطفي من أعماق روحه، وأن تهيجه لا يحتاج إلى تغذية بالملاحظة الدائمة للواقع الحقيقي وليس المتخيل، بل على العكس، إن عاطفيّة الفنان وقدرته على الخيال والحدس لا تلتهب في شعلة مضيئة ما لم تؤججها شعلة الحياة!
إن مقدرة الفنان على الملاحظة والمعاناة والتأثر تعني بالضرورة مقدرته على التأجيج بالمرئي، والتهيج لرؤيته، واجتذاب الخيال إلى عمله الإبداعي لينفذ بصورة أعمق إلى جوهر الأشياء.
على هذا الأساس، فإن خيال الفنان الإبداعي هو خيال إنسان عظيم العقل والقلب، عميق الوعي. خيال يسعفه في عملية البحث في الواقع عن الموضوع المناسب لمنجزه الفني، ويوفر له مساحة واسعة من الحرية للقيام بذلك، شريطة ألا يُبقي هذه العملية في السطح الخارجي العادي للواقع، وإنما عليه النفاذ بقوة وجرأة إلى عمق الأشياء، بحثاً وتنقيباً، عن الأشكال المناسبة للتعبير عن مضمون العمل الفني وفكرته ومعناه. أي لا بد من قيام حالة توافق قصوى بين الشكل والمضمون، وهي المعادلة الأساسية التي يجب أن تتحقق، في كل عمل إبداعي ناجح، على اختلاف أداوت تعبيره، والأسلوب المختار لتجسيده فيه.
بالمقابل، ومهما بدت لنا الصورة الفنية المتخيلة بعيدة ومنعتقة عن الواقع، لا بد أن تحتضن، بهذا الشكل أو ذاك، شيئاً منه، ذلك لأن أكثر الصور الفنيّة خياليّة هي تلك الصور التي تراءت فيها قوى الطبيعة الغامضة، ثم قوى اجتماعيّة غريبة تعادي الإنسان، وهي صور انبثقت من خيال الفنان، بتأثير جوانب وصفات العالم الموضوعي التي يقوم بإدراكها، بشكل أو بآخر، أثناء عملية تملكه للواقع تملكاً علمياً وموضوعياً، وهذا ما يدفعنا للتأكيد والجزم، بأن نسيج الصور الفنيّة الواقعيّة وانبثاقها من وعي الفنان، لا يتحقق إلا بوساطة الخيال القائم على الواقع، والمستند إلى حيثياته.!!
على هذا الأساس، يذهب البعض (ومنهم هيغل) إلى القول إنه من السخف إنكار دور الخيال في أشد أنواع العلوم صرامة، وأن الخيال صفة ذات قيمة عظمى وضروريّة في كل إبداع، وأن الخيال والاختلاف والتخيل، من العناصر المهمة في المعرفة الإنسانية على وجه العموم، وإحدى روافع وعي الإنسان، وفي الوقت نفسه تلعب دوراً هاماً في عملية التعميم الفني الصادق للواقع. إذاً فالخيال الإبداعي للفنان الواقعي، يعتمد على المعرفة الصادقة للواقع خلال عملية ملاحظته ودراسته، والعالم الواقعي هو أساسه. وعاطفيّة وملاحظة وغريزة وخيال الفنان: أسس هامة في عبقريته الإبداعيّة، ولكنها جميعها موجهة نحو تملك الواقع تملكاً أكمل وأعمق، وفي هذا الجانب بالذات، تكمن الأصالة الحقيقية للفنان الحقيقي.
بناءً على ما تقدم، ننتهي إلى حقيقة مفادها أن الإلهام الحقيقي لا ينتاب الفنان إلا عندما تستولي عليه الحياة بمظاهرها وألوانها وأطيافها المنداحة دوماً عن الجديد الممتع والساحر من الصياغات، والعميق الواعي من المحتوى، وبالإلهام، ومن خلاله، تتم ولادة العمل الفني الأصيل والحقيقي والمعبّر، الذي لا يغازل بصر المتلقي فقط، وإنما عليه أن يتغلغل عميقاً وبعيداً في بصيرته ووعيه أيضاً.
التاريخ: الثلاثاء23-7-2019
رقم العدد : 17031