إنَّ الملاحِظَ للافتراق بين المثقف والسُّلطة، يسترعي انتباهه أمران في غاية الوضوح والبداهة والأهمية، الأمر الأول غياب العقل الجمعي وبالتالي الفعل الجمعي للجماهير تجاه ما يحدث تحديداً في العقد الأخير، وهذا ما يعزى للخلط العام المقصود للمفاهيم والاتجاهات والحقائق والروائز الأساسية التي محورها الوطن والمواطنة، والأمر الثاني: وسط هذا الضجيج عدم تلمس شخص المثقف ودوره والالتفاف حوله بل إحباطه وتطويق جهده.
وهنا أرى لزاماً الخوض في تعريف المثقف فمن هو المثقف؟
ثمة من يرى أن المثقف هو الإنسان الذي ينتج نقداً للدولة والمجتمع الذي يعيش فيه بهدف توجيهه نحو الأفضل.
وربما كان أشهر تعريفات القرن العشرين في هذا السياق، للايطالي الصحفي والفيلسوف السياسي «أنطونيو غرامشي»، حيث يقول: «إن جميع الناس مفكرون، ولكن وظيفة المثقف أو المفكِّر في المجتمع لا يقوم بها كلُّ الناس»، وهو التعريف الذي اعتمده إدوارد سعيد في كتابه «المثقف والسلطة»، حيث يرى «سعيد» أنَّ حقيقة المثقَّف الأساسية أنَّه فريد «يتمتَّع بموهبة خاصة» يستطيع من خلالها حمل رسالة ما أو تمثيل وجهة نظر معينة، فلسفة ما أو موقف ما، إنه ذلك الموهوب الذي يقوم علناً «بطرح أسئلة محرجة»، ويصعب على الحكومات أو الشركات استقطابه، لأنَّهم لو تمكَّنوا من استقطابه، فقد المثقَّف بعده النقدي وخان نصَّه الإبداعي. كما وجب عليه مواجهة كلِّ أنواع التنميط والجمود، لأنَّ المثقَّف عموماً لديه الفرصة بأن يكون عكس التيار. إنَّ المثقَّف الحقَّ هو ذلك الذي يمثِّل المسكوت عنه، وكلَّ أمر مصيره النسيان، التجاهل والإخفاء، لأنَّ المثقَّف الحقَّ لا يمثِّل أحدا بل يمثِّل مبادئ كونية مشتركة لا تنازل عنها، فهو يمثِّل نبض الجماهير وهو الذي (لا يقبل أبداً بأنصاف حلول أو أنصاف الحقيقة)، هو الشخص الذي يواجه القوَّة بخطاب الحقِّ، ويصرُّ على أنَّ وظيفته هي أن يجبر نفسه ومريديه بالحقيقة، هو المثقَّف (المقاوم)، يقاوم بفكره ونشاطه هيمنة السلطة السائدة بمختلف أنماطها المادية والاجتماعية والسياسية التي تحتكر البنية الفوقية للمجتمع والسياسة.
عادة ما تكتنف العلاقة بين المثقف والسلطة مجموعة ملابسات وتناقضات، إذ تحكمها الريبة والتوجس، وافتقاد المصداقية، وإذا ما كانت السلطة هي التي تحدد هذه العلاقة في بلد ما، فيبقى المثقف هو الجانب الأضعف.
ولعل من نافل القول، الإخبار أن العلاقة بين المثقف والسلطة هي علاقة يحكمها كثير من الالتباس حتى سماها البعض «صراع السيف والقلم»، وهذه الثنائية في تلك العلاقة تصنع هاجساً كبيراً لدى المثقف.
فأين تكمن الإشكالية في تلك العلاقة؟
إن الإشكالية، تكمن في أن أي سلطة لابد أن تقوم على ثقافة معينة، فكما أنه لا سلطة بغير ثقافة، فلا ثقافة إلا ولها وجه من أوجه السلطة.. لأن النظام القائم لا يمكنه وضع سياسة معينة من دون أن يضفي عليها الشرعية، ومن هذا المنطلق تقوم الدولة باستقطاب المثقفين وأدلجتهم وفق ما تريد، لتنتج الدولة الثقافة والمثقف في آن معاً.
المثقف من وجهة نظر إدوارد سعيد، هو شخص لا منتم هاوٍ عصيٌّ على الاستقطاب من قبل أي مؤسسة كانت، وأدواره كثيرة منها: طرح الأسئلة المحرجة، كشف التناقضات المجتمعية، تمثيل القضايا طي الكتمان والتجاهل، التغيير المجتمعي، نقد وفضح الممارسات الخاطئة من أي جهة بدت.
و هو – أي المثقف – يحمل العديد من الصفات الفكرية والنفسية التي تؤهله للقيام بدوره على أكمل وجه.. فهو إنسان ذو قدرات فكرية مميزة، وهو صاحب رسالة أو مشروع يعمل على تمثيلها ونشرها في مجتمعه.. وهو إنسان صاحب نظرة نقدية للأمور، وينطلق في ممارساته النقدية من أدوات عالمية و معايير واضحة ترفض الكيل بمكيالين، وترفض التحيز للقبيلة أو الجماعة، وإن كانت ستقع بكل الأحوال، ولكن لابد من مراقبتها والاعتراف بها والتخفيف منها قدر الإمكان..
وهو إنسان محب للمغامرة، قادر على التضحية بكل شيء في مقابل قوله للحقيقة وتبنيه لها.. وهو إنسان قادر على التعاطف والتفاعل مع مختلف القضايا المجتمعية وتمثيلها بأمانة ودقة.
يصعب اختزال دور المثقف أو تعريفه بصورة واحدة، فهو إنسان ذو هوية متفردة يتعامل مع كم هائل من القضايا والموضوعات بشكل دائم وضمن إطار من المعايير العالمية المحددة من تنوير وعدالة وحرية.
لا بد وأن يتم تجاور الطرفين وتكاملهما، للوصول إلى حالة من التوازن المجتمعي الفكري السياسي الثقافي في الدولة الواحدة.
أما المثقف المسؤول الملتزم، فيبقى هو القلب النابض بالثقافة والفكر والمعرفة. يسعى إلى تطوير الثقافة وخدمة القضايا الوطنية والشعبية. قابضاً على جمر الحقيقة ولو احترق بها.
ليندا ابراهيم
التاريخ: الجمعة 26-7-2019
الرقم: 17034