الملحق الثقافي-حاتم حميد محسن:
يوصف الواقع “بما هو موجود”، أما الحقيقة truth فهي تتألف من صياغة فرضيات، تشير بشكل صحيح إلى ذلك الواقع. بهذه الطريقة، يمكن النظر إلى الحقيقة كطريقة نرتّب بها أفكارنا وعقائدنا نحو الواقع. خصائص كل من الواقعيين واللاواقعيين هي تصوّر مشكلة الحقيقة والواقع، باعتبارهما يتألفان من نقاط ثابتة، المراقب وما يُراقب، الموضوع والذات. ربما نرى أن المراقب لديه أفكار تتطابق مع الواقع، أو لديه عقائد تلتحم بإحكام مع بعضها لتشكل صورة حقيقية للواقع. البراغماتيون، بدلاً من الأخذ بهذه الرؤية في اعتبار الذات والموضوع كنقاط ثابتة، ينظرون إلى العلاقات بينهما باعتبارها تتميز بالتدفق والتغيير.
بيرس المؤسس
مؤسس الرؤية البراغماتية هو تشارلز ساندر بيرس Charles sanders peirce في القرن التاسع عشر. رؤيته جرى تطويرها من قبل وليم جيمس وجون ديوي، رغم أنهما لم يتفقا حول تطبيق البراغماتية. وصف جيمس طريقتين في معرفة الأشياء. نحن يمكننا معرفة الشيء فطرياً من التجربة المباشرة، مثلما يرى المرء كرسياً مباشرة أمام عينيه، أو أن المرء يمكنه المعرفة من خلال “سلسلة خارجية من الوسائط الفيزيقية والذهنية تربط بين الفكر و الشيء”. مثال على هذا معرفتنا بطيور البطريق في جنوب الأطلسي.
بالنسبة إلى جيمس، فإن الشكل البديهي للمعرفة هو استيعاب مباشر، لم يتوسطه أي شيء آخر، والحقيقة بالنسبة إلى المعرفة البديهية هي مسألة وعي مباشر في تدفق التجربة. في المقابل، بالنسبة إلى المعرفة المفاهيمية وغير المباشرة، لكي نعرف أن العقيدة حقيقية… “ذلك نصل إليه من خلال سياق يوفره العالم”. لذا بالنسبة إلى البراغماتي، نحن يجب أن ننظر إلى النتائج التطبيقية المعينة للشيء أو النظرية لتحقيق الوضوح في تفكيرنا حوله. بدلاً من التفكير بالفرضية إما كصحيحة بالمطلق أو كاذبة، ينظر البراغماتي في نتائج الفرضية المصممة، ليرى إن كانت صحيحة أم زائفة اعتماداً على هذه الاعتبارات.
ومن هنا بدلاً من الاقتراب نحو الحقيقة والواقع من خلال نظريات المطابقة والانسجام، يرى البراغماتي أن الحقيقة هي شيء مرن وعرضة للمراجعة اعتماداً على ما إذا كانت “تعمل” أم لا. البراغماتيون لا يعتقدون أن الفرضية كشيء إما صحيح كلياً أو خاطئ كلياً، بل هم ينظرون إلى نتائج تخصيص الفرضية هل هي صحيحة أم كاذبة، ويقررون ما إذا كانت صحيحة أم لا اعتماداً على ما سيلحق بها. عبارة “إنها مفيدة لأنها صحيحة” لها نفس المعنى للبراغماتي تماماً مثل “إنها صحيحة لأنها مفيدة”.
راسل والبراغماتية
ربما نلاحظ هنا معارضة (برتراند راسل) للبراغماتية في جداله حول وجود بابا نويل (الشخصية الأسطورية المسيحية التي تقوم بتوزيع الهدايا على الأطفال): البراغماتي “يحكم على العقيدة بنتائجها، بينما أنا أحكم عليها بأسبابها وحيث يتعلق الأمر بأحداث الماضي. أنا أعتبر هكذا عقيدة “صحيحة” أو قريبة من الصحيحة، عندما تمتلك نوعاً معيناً من العلاقات المعقدة (أحياناً شديدة التعقيد) مع أسبابها. ديوي يرى أنها تمتلك “ادّعاء مبرراً” – وهو التعبير الذي يستعمله بدلاً من “حقيقي” حينما تكون لها أنواع معينة من التأثيرات.
راسل يشير إلى أن الجدال المرتكز على البراغماتية، قد يثبت وجود بابا نوئيل، بسبب بعض النتائج المفيدة للاعتقاد بوجوده. غير أن هذا غير مقنع للبراغماتية. نحن لسنا أحراراً لاقتراح أي صيغة للحقيقة نسعد بها، تقييماتنا تحدث في تجربة ملموسة، إما من النوع المباشر والبديهي، أو من النوع الفكري الذي يستعمل عمليات فكرية ضمن “السياق الذي يوفره العالم”. سياق تطوير أفكار ذهنية يتضمن القوانين الطبيعية، الأنظمة التي طورتها جماعات سابقة لوصف الطبيعة، العالم الاجتماعي، العلاقات بين التدفق المستمر للفكر ولردود الأفعال على الأحداث. الأنواع الفكرية للتجارب توفر عملية للتصديق وتصبح جزءاً من عملية تصديق حقائق المستقبل أيضاً. من الصحيح أننا، كأفراد نشطاء في عملية صنع الحقيقة هذه، لكننا نحتاج أن نتذكر أننا “نقف على أكتاف” أسلافنا.
نظرية للحقيقة
إن مساهمات البراغماتية للحقيقة الديالكتيكية والواقع ستحتاج لإدراك حقيقة أنها نظرية للحقيقة أكثر من كونها نظرية للواقع. “إن الفكرة المصممة لتكون متفقاً عليها في النهاية من جانب جميع المحققين، هي ما نعنيه بالحقيقة، والشيء الذي جرى تمثيله في هذه الفكرة هو الواقع”. (لاحظ أن المقرر سلفاً يعني مؤكد ثبوته كحقيقة، ولا يمكن تجنبه بأي وسيلة”) بيرس. أيضاً “حقيقة ما هو واقعي، يعتمد فعلاً على الحقيقة الواقعية التي أريد بالتحقيق أن يقود إلى الإيمان بها إذا استمرت لما يكفي من الوقت”.
بيرس، ليس لديه نظرية راديكالية مثيرة يفترضها للحقيقة، واعتبر نفسه محافظاً متشدداً في السؤال حول ما يسمى حقيقة. هو مهتم فقط بمحاولة تطبيق “الطرق المثمرة للعلوم” على “الحقول اللامثمرة للميتافيزيقا”. بيرس طبق طريقته في التوضيح على مفهوم الواقع، هو يختزل الواقع إلى الحقيقة. حدّد الاثنين. عندئذ لا يبقى هناك واقع مستقل يتولى التصديق على الحقيقة. هذا كان مقترح نظريته في العلوم. عندما تشترك الأشياء في الواقع، فإن الواقع يوجد سلفاً وينتج تلك التأثيرات. الواقع يتم تصوره في آن واحد كأشياء مُنتجة وأيضاً كمنتج لتلك الأشياء.
لذا، فإن الواقع يُحكم عليه ليكون الغاية النهائية للبحث عن الحقيقة. إذا كان هذا البحث في النهاية يلتقي على نقاط ثابتة، ربما عند حافة التحقيق العلمي، عندئذ يقول البراغماتيون إن هنالك شيئاً ما يمكن تسميته “الواقع”، مع أنه بعيد جداً عنّا. لو قالوا إن الواقع الوحيد هو الذي يبرز من الحقائق التي لدينا، ويمكن تعديلها بواسطة حقائق أخرى تتأسس في عملية التحقيق، عندئذ هم ليس لديهم رؤية منفصلة عن الواقع. الواقع ربما موجود للبراغماتيين، لكنه يبدو مساوياً للنومينا noumena الكانطية (الشيء في ذاته)، وليس له أهمية تطبيقية بذاته. المهم عملياً هو البحث عنه، وهذه العملية من البحث تصبح هي واقعنا. هذه هي أكبر مساهمة للبراغماتية. ربما لا تكون هذه الكلمة الأخيرة حول العلاقة بين الحقيقة والواقع، لكن البراغماتيين سيتحققون من إمكانية أن تكون هناك “كلمة أخيرة”.
التاريخ: الثلاثاء30-7-2019
رقم العدد :17037