الملحق الثقافي-د. محمود شاهين:
(في زمن يكثر الحديث فيه عن (زوال الكتاب الورقي) أحسب أن من ينشر مراسلاته الإلكترونيّة ورقياً، لا يزال يساوره الاعتقاد بأن الوسيلة الورقيّة أبقى وأكثر حسيّة من الوسيلة الإلكترونيّة، لأنها تُشرك مزيداً من الحواس في متعة الكتابة والقراءة).
__________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
بهذه الرؤية المنحازة للكتاب الورقي، يمهد الدكتور فواز طرابلسي لكتاب (في أدب الصداقة/ عبد الرحمن منيف ومروان قصاب باشي) الصادر في بيروت، داعياً القارئ إلى مقارنة حسيّة حفيف الورق، وصرير القلم الخافت عليه، بالتكتكة الرتيبة للترقين الآلي، وإلى تحسس ملمس الورق، وشم رائحته أثناء تقليب صفحات الكتب والمجلات والصحف حديثها وقديمها، لاسيّما تلك الخارجة للتو من المطبعة، حيث تضوع منها روائح حبر وصمغ وخشب. أو التكهن عن عصر تدوين مخطوطة، أو قيمتها، من مجرد شميم ما بقي فيها من تلك الروائح، ومعها بصمات خطاطين وقراء. الكتاب الجديد رغيف خبز، والمخطوطة خمرة معتقة.
المراسلات (بحسب طرابلسي) قصة صداقة سابقة على بدء التراسل، وصداقة تجلت وتطوّرت أثناءها ومن خلالها، وهذا ما حدث مع الروائي عبد الرحمن منيف، صاحب مدن الملح، وأرض السواد، والأشجار واغتيال مرزوق، وقصة حب مجوسيّة… وغيرها، والفنان التشكيلي السوري مروان قصاب باشي الذي ولد في دمشق، وعاش معظم حياته في برلين، منتجاً للفن ومُدرّساً له، وقد سبق للاثنين واشتركا في إصدار كتاب (مروان.. رحلة الحياة والفن) حيث كتب منيف نصوص الكتاب التي تُقدم مروان الفنان.
في كتابهما المشترك (في أدب الصداقة) يكتب منيف وقصاب باشي، سفراً جديداً في أدب المراسلات القديم-الجديد. ضم الكتاب ما يربو على 140 رسالة متبادلة بينهما، الأولى تحمل تاريخ 12/6/ 1990 مرسلة من منيف في دمشق، إلى مروان في برلين، والأخيرة مرسلة من منيف أيضاً، إلى مروان نهاية العام 2003. أي قبل رحيله في دمشق بسنة واحدة، أما مروان فقد رحل في برلين العام 2016.
تبدأ قصة هذا الكتاب (بحسب الدكتور طرابلسي) بروائي فقد ثقته بالكلمة، إلى حد اعتبارها قد تعهّرت، فيتمنى لو أنه يرسم. أما الطرف الثاني في القصة فهو فنان مغترب، لم يعد يكتفي بلغة الخط (الرسم) واللون والكتلة، فلجأ إلى البوح بالكلمات. وهكذا يتقاطع الصديقان (الروائي) و(التشكيلي) عند همّ كبير. فالتشكيلي يبحث عن طرق تعبير بالكلمات، والروائي مهووس بالفن، يُجرّب في طاقات الكلمات، التعبير عن الخط واللون والكتلة. التشكيلي لا يستطيع أن يكتب عندما يرسم، والروائي لن يستطيع الجمع بين الرواية والرسم، ولسان حاله: (لو لم أكتب لرسمت). والسؤال المشترك بين الاثنين: كيف يمكن للكلمة أن تقول الشكل واللون. بل كيف التعبير عن الفن من غير استخدام لغة الكلمات. وهكذا يصل الصديقان إلى حد تبادل الأدوار بينهما.
المادة الأولى للحياة
بين اللغة المنصوصة واللغة المبصورة، يتواطأ الروائي والتشكيلي. فمن جهته يريد الروائي غسل الكلمات، ويبحث التشكيلي عن براءة اللون الأول، المادة الأولى للحياة. لكن الروائي يريد من الغسل شحن الكلمات بطاقاتها القصوى، فإذا هو (صاحب النظام الصارم في البناء الروائي) يتمنى الكتابة الأوتوماتيكيّة، على طريقة السورياليين، داعياً صديقه التشكيلي إلى كتابة نص سومري، أو بابلي مشترك، ولكن بشكل معاصر.
تنضح الرسائل المتبادلة بين (منيف) و(قصاب باشي) بهاجس مشترك رئيس هو: الدعوة إلى حرية التعبير القصوى. حرية تقلب العالم رأساً على عقب، معيدةً ترتيب الكون، وإنشاء حياة جديدة مليئة بالعدل، والحرية، والخبز، والمساواة.
كان مروان قصاب باشي التشكيلي يعالج الوجه على طريقته، فقد كرّس الجانب الأكبر والأهم من فنه لوجه يُشبه الأرض. يروي مروان لصديقه عبد الرحمن أنه فرح لأن ناقداً فنياً ألمانياً قال عنه إنه (بدوي متحضر) حري به أن يفرح لو قيل عنه إنه صوفي، لأنه صوفي إنساني قضى العمر في استنطاق وجه، بل قل الوجه يُسائله عن صفات ومعان ومشاعر ورؤى وأحاسيس لامتناهية، والنتيجة هي البوح، هذه الكلمة الأثيرة عند الفنان، فبينه وبين الوجه علاقة عاشق بمعشوق. هكذا نفهم لماذا أراد مروان أن يُوضع في مقدمة كتاب عبد الرحمن عنه عبارة الحلاج: (رأيت ربي بعين قلبي فقلت من أنت؟ قال: أنت هو بحث عن هوية الأنا من خلال استنطاق هوية الآخر).
والحقيقة، تكمن كل عبقرية التصوير عند مروان في تمييزه بين سطح اللوحة واللوحة. السطح هو القشرة، سطح أرض منقوبة، كما يصفها، بقيت عليها آثار الكدح من تراب ورمل وجذور، والتشبيه قاصر دوماً، كما لا يخفى. أما عملية النقب والحفر فتتكرر آلاف المرات، وتُنتج آلاف السطوح. بعبارة أخرى (حسب الطرابلسي) ليست القشرة هي اللوحة، المخفي أعظم، المخفي هو الوجه.
في إحدى رسائله، يكتب مروان بعض السطور لصديقه عبد الرحمن منيف بمداد (الصماق) وهو حبر الأسرار الذي كان يُستخدم في المخطوطات القديمة. يقول مروان: اللوحة مكتوبة بما نُسمّيه الحبر السري، المطلوب الخيمياء التي تستظهره. (الجسد قميص الروح) يقول الصوفي، والقشرة عند مروان هي قميص اللوحة تتمظهر به على الناس.
يقول عبد الرحمن في إحدى رسائله لمروان: إن الأفكار التي تبادلناها جعلتني أثق أكثر من قبل، أن الفن يمكن أن يفعل شيئاً مهماً: أن يجعل البشر أكثر احتمالاً، إن لم أقل أجمل. كان لديّ شك كبير، وربما لا يزال، أننا نخوض في مياه ضحلة، وبالتالي لا حاجة للكلمات الكبيرة، أو الأحلام حول المستقبل، ولهذا فإن الفن، أياً كانت وسيلته، هراء، لعبة مجانين، شيء زائد. ربما اللون، للبكارة التي يتمتع بها، وللحياد الذي يميزه، لا يزال قادراً على أن يقول الأشياء بشكل جيد ومختلف. أعتقد أن الفنان الذي يتعامل بوسائل أخرى، غير الكلمات، أكثر حريّة، وأكثر بؤساً، لأنه يتعامل مع المادة الأولى للحياة، مع اللون أو الكتلة، ولذلك لديه من الحرية ما يجعل له الحق في أن يُعيد تشكيل العالم كما يُريد.
يقول مروان في رسالة لعبد الرحمن: كثيراً ما تحدثت معك (وهو ما يُقال عنه المناجاة). والمناجاة تملك قسطاً من السعادة الداخليّة، وهي المحادثة الشخصيّة، والدخول بسرعة إلى ذكريات، وتصعيد أفكار ومشاعر اليوم والبارحة، والتأكيد على أحاسيس بسيطة تأتي بالتداعي وسريعاً، تأخذ معنى تجديدياً واعتراضياً. اليوم جئت إلى الريشة والحبر والورق لأسجّل دون سابق تفكير، قسطاً بسيطاً مما يجول تداعياً بين عيني وقلبي، بين برلين ودمشق. مثلاً: هناك الطيور الرحالة والطيور المقيمة أو المستوطنة. نحن هذه الطيور،
بين حين وآخر نكون طيراً جوالاً بين أفريقيا والشمال البعيد. وأنا يا عبد الرحمن ذلك الطير المستوطن وقد بنيت عشي في برلين وهي (دمشقي) ومن ثم برلين أو دمشق، هي مرسمي، وهي العش الحار حيث غزلت به عاماً بعد عام، القسط الأكبر والهام من حياتي بكل ما فيها من اليوميّة المعتادة والأمل والمناعة والفرح والحزن. في دمشق أشعر بالحنان والحب والغربة أيضاً، وأعود إلى برلين غريباً من جديد، وليست غربتي اليوم كغربة الأمس، بل إنها غربة جديدة تُبعدني عن الشواطئ المعتادة، حيث يُوجد الظل ونسمات الأمل الفرحة. أحاول كل جهدي في الظروف المذكورة، أن أكسب توازني من خلال الرسم، وإذا لم أوفق، فإن صديقي هو الحزن، وقليلاً من اليأس والقنوط والشعور بالانعزال التام. لقد عدت من دمشق بشعور الغربة، ثم إن مرضي لازمني في برلين، وأحاول الرسم بشكل محموم، لأكسب شيئاً من الاطمئنان والتوازن.
التاريخ: الثلاثاء30-7-2019
رقم العدد :17037