«يأتي الذي كان»..والحــرب؟!.. فاتنــة الرعـــاع الهائميــن بهـا ســـدى..

هل فعلاً «لانزال بخير»؟!!.. سؤالٌ لابدَّ أن نطرحهُ، رغم ما آلت إليه أحوالنا في زمنٍ أحكمَ الموت فيه قبضته على حياتنا، وبلا رأفةٍ أو أخلاقٍ أو ضمير.. أحكمها على أرواحنا مثلما بلادنا, البلاد التي تعرَّت فألبسناها جلودنا، وعطشت فرويناها بدمائنا.. بكتْ، فكفكفنا بالحبِّ دموعها، نزفتْ، فضمَّدنا بالحرفِ جراحها.

أما ما استدعى هذا السؤال، فـ «هادي دانيال».. الشاعر الذي بشَّرنا ومنذ النشيد الأول من مجموعته الشعرية «يأتي الذي كان»، بالخيرِ الذي أراده وأرادنا أن نريده، رغم ندرته أو انعدامه في هذا الزمان..
/لانزالُ بخيرْ/ تَعبُّ البلادُ إذا ظَمئتْ من دِمانا/ ونُطعِمُها لَحمَنا إذ تَجوع/ وتلبسُ أرواحُنا عشبَةً، صخرةً في ثَراها/ وفوق الثرى في الهواءِ/ سحاباً فَراشاً وطيرْ/.
لانزالُ بخيرْ/ نغنِّي على الطرقاتِ: على صهوةِ الموتِ نقصدُ نبعَ الحياةِ/ ونَرضعُ ماءَ الشجاعةِ في الثكناتِ/ وننتظرُ الحربَ في الشرفات/ فنحنُ جذورُ وجذعُ البلادِ/ قد تُبدِّلُ أغصانَها/ وأغصانُها قد تُبدِّلُ أوراقَها/ ولكننا هاهنا نُمسِكُ الأرض إن زُلزِلتْ/ لاصباحُ الثعالبِ يخدعُنا/ ولا خوفَ من ضرضَراتِ نُمَيْر/..
ربما رأى بأنها «فرصة لحياةٍ جديدة» لا تشبه تلك التي نعيشها ونشعر فيها «كأن الحياة تتربَّص بنا كالذئب/ والوقتُ منعطفٌ غامضٌ في الزمانِ/ ونافذةٌ في الجدارِ تُسدُّ بجيفةِ كلب».
الحياة التي لم يعد يعرف نفسه فيها بعد أن تاهت فيه، والتي جرحته وآلمته فاختلط عليه الشعور وتاهَ معلناً بأن ما بات يعتريه: «أُبعثَرُ بين صداها العميق البعيد/ وما عدتُ أعرفُني/ شاهدٌ أم شهيد؟!».
لا يعرف ذلك فيصابُ بالقهر، وكما أبناء بلده الذين يدركون بأن هناك سباقاً لقتلهم بأمر «رعاةِ البقر».. أيضاً، أذنابهم وأعرابهم ومن اضطرَّونا لأن نردد ما ردَّده، وبغضبِ قصيدته:
/وماهمَّ أن العروبةَ صارتْ رماداً/ وبعثرها الانبِتَات/ سننفضُ عنّا الرَّمادْ/ فنحنُ سلالةُ فينيقَ نُحيي الجمادْ/ وبالدَّمعِ والدّمِ يمتزجانِ نبيذاً جديدا/ سنمنحُ معنىً جديداً/ وشكلاً جديدا/ لهذي الحياة/.
حتماً هي إرادة السوري، فكيف وإن كان شاعراً غرَّبته الأوجاع فكتبَها بأنينٍ جهوري.. سوريٌّ يصرُّ على أن «يأتي الذي كان» في وطن الحبِّ والسلام والأمان.. يصرُّ على أن يأتي مايريده شعبه وينتظره، ولو عبر القصيدة التي أبت إلا أن تستدعيه وتكتبه.. قصيدته المسكونة بوطنٍ حمله في ذاكرته «زهرة تجربة»، وعلى مدى ترحاله وحنينه لكلِّ مافيه، ولاسيما قريته الطيبة.
تتحوّل الأحلام لديه إلى «أضغاث يقظة»، فتتراءى لهُ «قبعة الشتاء على رأس الصيف» ويدُ القصيدة ممتدّة إلى «الغريق في حبرِ الضاد الفاسد» حيث «ضمائر المحامين والقضاة والروائيين والشعراء العفنة» و»خراف الأديان المستذئبة» التي تنهش الحياة كلّ لحظة:
تنهشها، وتنثرُ الجماجم وتحرقها.. يتعفّن الهواء فقد نجسه الأعراب، وأحالوا طواحين أساطيره إلى «طواحين الهباء»..
نعم.. لقد تعفّن هواؤنا، واستشرى وباءً في فضائنا، فقد غزاه المغول بحقدٍ لامعقول.. غزاهُ الظلام المُلتحي بنجاسته، وبشهادةِ القصيدة التي لعنتْ كلّ من دنَّسه..
هكذا بات الهواء، و/سليلُ شمشونَ ونيرونَ وهولاكو/ يُعَمِّد بنيرانِ حروبهِ المقدسة/ أطفالَ التاريخِ والجغرافيا المعاصرين/ يُعاضدهُ ملائكةُ اليانكي بقُبعاتهم البيضاء/..
كل ذلك، ولا تكفّ قصائد «دانيال» عن تناول ما أوجعه، وعن إطلاق «نشيد الحنين» الذي يُعلن فيه بأن ما يُفجعه:
/لارفاقَ يودِّعون/ ولارفاقَ يرافقون/ ولارفاقَ متى وصلتُ يُعانِقون/ ولاخُطايَ لها صَدى/ غريباً يائساً/ يطوي خرائطهُ/ والحربُ؟!/ فاتنةُ الرُعاعِ الهائمينَ بها سُدى/.
هي فجائعٌ وإن جعلتْ حتى طريق بلدته ملغَّماً باللاأمان، إلا أنها زادت إصراره على أن «يأتي الذي كان».. زادت إصراره وتأكيده: «الطريق إلي».. طريق الوطن الممتد من قلب قصيدته، إلى حيثُ تطلُّ قريته:
«تطلُّ على جرفِ وادٍ عميقْ/ تسيرُ عليها ورأسكَ بين الغيوم/ وتعلمُ أن الطريقَ التي فتنتكَ/ ستُفضي إلى هوَّةٍ/ أو حريقْ/ ولكنني سوف أسلُكها/ لاطريقَ سواها إليَّ/ والكنوزُ التي بانتظاري/ بعضُ انتشاء بذكرى أو رائحةٍ/ وعناقُ صديقْ/.
لاشك أنه وعد الشعرِ للشعراء، وربما كما سمَّاهُ «وعد الماء».. ماءُ بردى الذي لا يكترث بالردى.. يهدر ولايغدر، ولا يغرق أبناء قلبه بل يغدق:
/شاءَ من شاءَ أنَّك صوتٌ لذاكَ البلدْ/ فكرةً كان للبشريةِ أو مهدها المتجدِّد/ أو جُرحها النازفَ المتَّقد/ أنتَ هابيلُ في وعيِ قابيلَ من زمنٍ لايُحدّْ/ وذاكرةُ الأرضِ ينكأها خِنجرُ عمِّهْ/ نصلهُ حاضرٌ مجتهدْ/ قدرٌ صارخٌ صمتهُ باللغاتِ جميعاً/ وألواحهُ لاتُعدّْ/ من سيقرأ هذي الجراحَ ويدملُها/ قبلَ أن تبتردْ؟/.
يضجر الشاعر، فيقرر التأني.. يتأمل سارحاً في «ضجر البستاني». ذاك الذي قرأ معاناته في غزة والشام، كما قرأ أشلاء أطفال وتناثر الآلام..
قرأها، فاستعارَ «ترنيمة الوَلَهِ» لتزيح شيئاً من وجعٍ استشعره يسعى لأن يستعبدها.. قرأها بليلٍ ألقى عليه ليله.. تاهَ، فاستجار بضوءِ القصيدة دليلهْ. استجار بها فوجدها «أفق من الجدران».. اخترقها بكلماتٍ رأت بأن ما تراكم خلفها وفي الأوطان:
/لا شيء يُرى إلا مَنْ/ عادوا إلى أماكنِ الجرائمِ التي تنعتُهم/ قتَلة مُقدَّسين/ كلُّ قاتلٍ يحملُ سطلَ ماءٍ/ كي يغسلَ الدَّمَ الذي سفكهُ/ تقرُّباً من السماء/.
عبثاً يأمل أن يَرى ما تمناهُ يُرى.. «عبثاً أرى؟!».. سؤالٌ، تضجُّ به الآفاق، ويلعنُ كلّ من استبدلَ الحياة بموتٍ مهراق..
هو ما رآه، ومالم يتمناه.. يغصُّ حرفه من الغضب، فتعلن القصيدة بأن العرب:
/عربٌ تعفَّن صمتُهم في الرملِ/ إرثُهمُ الذي خطُّوهُ فيهِ/ محتهُ أحذيةُ الغُزاةِ/ وضادُهُم رَطنتْ/ ويأنفُ أخذهُم أجَلُ/.
عربٌ كأنقاضٍ مبعثرةٍ/ يشيدون المعابدَ للرياحِ المُقبِلهْ/ وكقشَّةٍ تزهو بما كانت عليه السُّنبلهْ/ عربٌ ظلالٌ لانهار لهم/ والليلُ يكتَملُ!/.
نكتفي بهذه القراءة الموجزة لديوان «هادي دانيال» الشاعر السوري المقيم في تونس، والذي أصدر قبل «يأتي الذي كان»، اثنين وعشرين ديواناً أغلبها يشرِّح الواقع العربي بضميرِ القصيدةِ المرفوعة رغم نزيف الأوطان.
هفاف ميهوب

 

التاريخ: الأربعاء 31-7-2019
رقم العدد : 17038

آخر الأخبار
وزارة الثقافة تطلق احتفالية " الثقافة رسالة حياة" "لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى إطار جامع تكفله الإستراتيجية الوطنية لدعم وتنمية المشاريع "متناهية الصِغَر والصغيرة" طلبتنا العائدون من لبنان يناشدون التربية لحل مشكلتهم مع موقع الوزارة الإلكتروني عناوين الصحف العالمية 24/11/2024 رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من ‏القطاعات الوزير صباغ يلتقي بيدرسون مؤسسات التمويل الأصغر في دائرة الضوء ومقترح لإحداث صندوق وطني لتمويلها في مناقشة قانون حماية المستهلك.. "تجارة حلب": عقوبة السجن غير مقبولة في المخالفات الخفيفة في خامس جلسات "لأجل دمشق نتحاور".. محافظ دمشق: لولا قصور مخطط "ايكوشار" لما ظهرت ١٩ منطقة مخالفات الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص