في الورق نحفر تقهقرنا تحت وطأة الانكسار.. لم نعد نشتم رائحة الطيون وزهر الليمون.. دخلت قريتنا ماراثونا عالميا في رفع الأبنية الشاهقة.. لم يعد هناك مكان للحكايا ولا لسماع صدى أوجاع أو حزن الجيران.. كل مابقي بيت أو بيتان تحيط بهما الأبنية من كل حدب وصوب، يدللان على قلة حيل أصحابها في مواكبة تلك الضجة والصخب الذي لم يروا منها سوى شوارع عريضة قضمت جزءاً كبيراً من صوت العصافير وحفيف أوراق الشجر التي كانت تؤنس أنين الجوع..
الحزن ليس على الفقر ولاقلة الحيل، وإنما الحزن على مخزون الحكايا التي لن تعود، فصوت العصافير والريح والأغاني اصطدم بكل جدار.. لم يبق لـ (أبو علي شاهين..الفهد..) لاعريشة ولاثمر شجرة يقتات به من أمام كل دار، وهو الهائم الذي كسر قيود كل استعمار..
الورق وحده الورق نحفر عليه غروبا ليوم مكدود يهبط الليل فيه مسرعا دون وقفة تأمل للغروب الذي غابت معه الشطآن,ولم يبق منها سوى ذكريات مؤانسة وعشق واستدانة للحظات لم يعد بالإمكان استردادها دون حفنة من النقود لتجار كل حروف وأبجدية وكلمات الشطآن.. لست أبكي شرب الماء بكوز الفخار، ولانفض غبار السجاد بعصا الخيزران، ولابأس بتقنين الحياة..
أما أن تضمحل الشطآن وتتلاشى العرائش والأشجار وتنقرض حكايات وأبجديات البحر والأرض والزرع ومخازين الدفاتر والريح والأغاني والأناشيد والورق فهذا مالا يطيقه عالمنا المعاصر ذرعا، ولامدنيته ولا أنفاس صبحه ومسائه المعشقة بألوان الخضرة والزرقة الربانية.. هي وصايا في ورق…مهما ضاعت حقوق تبقى خسارة الأرض والإنسان والحضارة أعظم من ذلك بكثير..
هناء الدويري
التاريخ: الجمعة 2-8-2019
الرقم: 17040