حين سئل محمد حسنين هيكل عن الإمبراطورية الأميركية رد مصححا السؤال أن اميركا ليست امبراطورية بل بريطانيا مازالت هي الإمبراطورية، فاللغة الإنكليزية هي التي تسود وتنشر في العالم واللغة هي الثقافة والسلوك والتفكير والقيم والمصطلحات التي توجه وتقود كل شيء.
وربما هذا يفسر ما ينسب إلى تشرشل حين قال ان بريطانيا تتخلى عن امبراطوريتها ولا تتخلى عن شكسبير، وبالتالي يعني التخلي عن الاحتلال المباشر للارض لانه مهما طال زائل إلى غير رجعة، ولكن احتلال العقل والتحكم به وتوجيهه هو الأساس وهو الباقي وهذا ما يتطابق مع ما قاله محمد حسنين هيكل.
إذن نحن اليوم أمام احتلال من لون آخر مختلف كليا هو من ضمن طرق وأساليب الحروب الجديدة التي يطلقون عليها اسم الجيل الرابع أو الخامس.. بل هو هذا اللون من الحروب في كل الحروب..
استعمار العقل وما يؤدي إليه من استحمار الشعوب وضياعها واللغة هي المفتاح، هي الأساس في ذلك.
واقع لابد من الاعتراف به وتشخيصه في وطننا الكبير.. حال لغتنا أمننا الثقافي واللغوي والفكري.. ومن اقدر من الاستاذ الدكتور محمود احمد السيد على فعل ذلك؟ من نذر العمر والجهد وكل ما يتاح للعمل على صون هذه اللغة والارتقاء بنا لنكون عند عتبات جمالها.. وكأني به بعد هذا التعب والجهد ومعه الكثيرون من العلماء الأجلاء يصرخون بنا: لستم اهلا للأمانة.. مالكم تسارعون إلى هدم آخر أسوار قلاع ثقافتنا.
هي صرخات وصرخات لم تأت من فراغ وليست صرخات عادية لا.. بل خطط عمل وفعل تقدم رؤى وحلولا، ولكن هل تصب في فراغ لا أدري؟.
في كتابه المهم جدا والصادر حديثا عن الهيئة العامة السورية للكتاب تحت عنوان (الهاجس اللغوي) يقدم السيد خطة للعمل والنهوض وصون اللغة العربية وهو الخبير والعالم الذي سبر أغوارها دراسة وتدريسا وصونا والمؤتمن على تمكينها, الكتاب سفر مهم جدا لايمكن تجاوز اي محور من محاوره.
يرى الدكتور السيد في مقدمة الكتاب أن من مؤرقات واقعنا اللغوي غياب السياسة اللغوية ومن ثم غياب التخطيط اللغوي في ضوئها ويتجلى هذا الغياب على الصعيدين القومي والوطني المحلي.
ومن ذلك أيضا فتور الوعي اللغوي تجاه ما يكتنف العربية من تعد على حدودها من الغزو الثقافي وما يحاك للنيل منها ان على يد أعدائها الخارجيين أو على يد شريحة من أبنائها في الداخل افتتنوا باللغات الأجنبية على انها لغة التقدم والرقي واستهانوا بلغتهم الأم على انها لغة التخلف وعدم الرقي فأصيبوا بعقدتي التصاغر والتكابر.. التصاغر أمام الأجنبي والتكابر على الثقافة العربية ولغتها الخالدة وعدم احترام حرمتها دون أن يأخذ الأمن اللغوي دوره في صون اللغة وحمايتها من التحديات التي تحيط بها وتكتنفها ولا ريب في أن غياب هذا الأمن اللغوي يعد هاجسا مؤلما ومؤرقا.
أمننا اللغوي المستباح
يفرد الدكتور السيد مساحة واسعة في كتابه هذا للبحث في أمننا اللغوي الذي على ما يبدو أنه متصدع ولا أحد يعمل على ترميمه وتقويته والنهوض به.. يقول السيد متحدثا عن الأمن اللغوي ومعرفا اياه:الأمن اللغوي هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي ولا يقل أهمية عن الأمن الغذائي والامن المائي..لانه يحافظ على الهوية..هوية الفرد من جهة وهوية الأمة التي ينتمي اليها من جهة أخرى.. ولما كانت اللغة العربية هي وعاء الهوية ولسان المواطنة وحاملة الموروث الثقافي والحضاري وآلة الإنتاج المعرفي والإبداعي كان من الأمن الحفاظ عليها والنهوض بها والعمل على أن تكون لمطالب العصر وملبية لحاجاته وذائدة عن تراث الأمة.. والامن اللغوي عماد محوري من عمد الأمن القومي وهو لا يتعارض مع الانفتاح على اللغات الأجنبية لتعرف ثقافات متكلميها، بل إن تعلم واتقان لغة أجنبية مطلب أساسي وهام تستدعيه طبيعة العصر.
ويخلص السيد إلى القول: إن من بيدهم القرار لايولون المادة اللغوية الاهمية الجديرة بها مع أن بقاء الهوية مرهون ببقاء اللغة القومية الجامعة الموحدة على الصعيدين الوطني والقومي ولا جامع لشؤون المجتمع في مختلف مجالاته الا بلغة قومية عميقة الجذور في التاريخ البشري ومواكبة روح العصر ومتطلباته.
ويدعو السيد أصحاب القرار إلى اتخاذ اجراءات كفيلة بالنهوض بلغتهم والتمكين لها وليتهم يقررون سياسة لغوية واضحة لدعم لغتهم على الصعد كافة.
والواقع لا امن لغويا في أمتنا الا عندما يدرك أبناء الأمة كافة عن وعي أن لغتهم هي هويتهم وان ثمة ارتباطا وتماهيا بين السياسة واللغة والهوية ذلك لأن السياسة جسر عماده الثقافة..والثقافة نهر تسقي جداوله منابع السياسة والهوية قلعة حصنها الثقافة وسياجها اللغة. وخلاصة ما يقوله الدكتور السيد: غنيٌ عن البيان أن أي لغة إنما تحيا بالاستعمال، وتموت بالإهمال، وأن شؤون لغتنا العربية والتحديات التي تواجهها في الاستعمال تشكل هاجساً لغوياً يهيمن على تفكيرنا. وقد حاول هذا الكتاب أن يسلط الأضواء على إشكالات اللغة العربية والأداء اللغوي على أرض الواقع، ومحاولات تجديد العربية وتيسيرها للارتقاء بهذا الواقع في ميادين النحو والبلاغة وإضافة دلالات جديدة لبعض الكلمات والعبارات وفي مجال تعليم اللغة وتعلمها.
وأبان الكتاب أن النهوض باللغة يتطلب التخطيط اللغوي في ضوء سياسة لغوية واضحة تعالج قضاياها على أن يكون عمادها التنسيق والتكامل بين قطاعات المجتمع كافة على المستويين المحلي والقومي انطلاقاً من أن صون اللغة وحمايتها مسؤولية جماعية, ومن هنا احتل الأمن اللغوي حيزاً في المعالجة.
دائرة الثقافة
التاريخ: الثلاثاء 6-8-2019
الرقم: 17042