الملحق الثقافي:د. محمود شاهين:
(جماليات الفنون الشرقيّة وأثرها على الفنون الغربيّة) كتاب للفنانة التشكيليّة المصريّة الدكتورة أمل نصر المدرّسة في قسم التصوير بكلية الفنون الجميلة بالإسكندريّة. يتناول هذا الكتاب البنية الفكريّة والجماليّة للفنون الشرقيّة وأثرها في الفن الغربي الحديث، متتبعاً البعد التاريخي في علاقة الشرق بالغرب ووسائل ومظاهر هذه العلاقة، بدءاً من طرق التجارة القديمة بينهما، وانتهاءً بالاحتكاك المباشر بين شعوبهما، عن طريق الفتوحات الإسلاميّة التي طاولت صقلية والأندلس، وفيما بعد بوساطة الحروب الصليبيّة التي زادت من اهتمام الغرب بالشرق الأدنى الإسلامي، بعد أن كانت عملية التواصل مقتصرة على بعض رحلات الحج المحدودة من الغرب الأوروبي لزيارة بيت المقدس، أو بعض العلاقات التجاريّة والمبادلات الدبلوماسيّة.
بدايات الاستشراق في التصوير الغربي
يرصد الكتاب البدايات الأولى لاهتمام الغرب بالتراث الفني الشرقي العائدة إلى ما قبل عصر النهضة، سواء عن طريق التجارة، أو الحرب، أو الاحتكاك الثقافي، أو التمثيل الدبلوماسي، لكن التأثيرات الخاصة بالفن التشكيلي، ظهرت بشكل واضح بداية القرون الوسطى وعصر النهضة، مروراً بمرحلة الباروك، ثم مرحلة الاستشراق، تلاها ظهور المدرسة الرومانسيّة، وذلك على تخوم القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث حدث انجذاب غربي شديد ناحية الشرق الذي لم يكن قد دخله النظام الرأسمالي بعد، ولم تفسد العلاقات الماديّة البرجوازيّة الانسجام بين مسلماته الأخلاقيّة والجماليّة، خاصة وأن الشرق يتمتع بطبيعة جذابة، وتراث فني تاريخي متنوع.
ويشير الكتاب إلى أن الفنان الفرنسي ديلاكروا (1798-1865) شكّل مرحلة أساسيّة من الفن في سريان الأثر الشرقي في الغرب، وتوجيه أجيال من الفنانين الذين أعقبوه نحو عوالم الشرق، خاصة التأثيريين منهم. كان حنينه إلى الشرق يُشكّل حاجة ملحة أثارها اطلاعه على المنمنمات الإسلاميّة في متحف اللوفر، وأوراق أصدقائه الذين زاروا المشرق، والقصص والحكايات عن الحياة الساحرة هناك، ولكن الحقيقة التي فاجأت ديلاكروا في بلاد العرب تجاوزت الحلم والوصف، فقد انتقل فجأة من جو باريس الداكن الغائم إلى جو الجزائر وطنجة؛ حيث نور الشمس يملأ السهول والصحاري، وحيث الحياة الهادئة.
الرؤية الغربيّة للفنون الشرقيّة
بعد ذلك يقف الكتاب عند الرؤية الغربيّة للفنون الشرقيّة، متتبعاً بدايات ظهور الشرق في الفكر الغربي، حيث شكّلت حضارات الشرق القديم أحد الأصول الهامة للتراث الغربي، نظراً لأن أوروبا هي الامتداد الغربي لآسيا: جغرافيّاً وتاريخيّاً وحضاريّاً. ثم يشير الكتاب إلى الوعي الأوروبي الجديد بحضارات وفنون الشرق التي تتمتع بسمات مميزة منها: اعتماد الخط في بناء العمل الفني، ونقاء اللون، والانتقاء المتميز لشكل المسطح، وارتباط الصورة بالنص المكتوب. كما كان للحضارة الإسلاميّة دورها الكبير كأحد روافد النهضة الأوروبيّة الحديثة، من خلال علومها المختلفة كالفلسفة، وعلوم الكلام، والعلوم الطبيعيّة والرياضيّة. وقد استطاعت التأثير على رؤية العصور الوسطى في الصلة بين الإيمان والعقل، فبعد أن كان الإيمان يتجاوز حدود العقل، وكان سداً لا يستطيع العقل الوصول إليه، أو إدراكه، أصبح الإيمان هو العقل، والعقل هو الإيمان. في المقابل، حصرت نظرة الغرب الفنون الشرقيّة، بمجموعة من الزخارف، والعلاقات الشكليّة التي ليس لها علاقة بروح هذه الفنون وارتباطها بنسيج من المعطيات الثقافيّة والدلاليّة الرمزيّة، لم يكن الغربيون الذي يستلهمونها يفقهون شيئاً عنها.
أثر الفن الياباني بالفن الغربي
يقف الكتاب عند جماليات الفن الياباني وأثرها في الفن الغربي الحديث، حيث اكتشف الغرب اليابان العام 1543 عندما سافر إليها الإيطالي (بينتو بورتوجيزي Pinto Portuguese ). وبالتدريج بدأت عملية اكتشاف الغرب للحضارة اليابانيّة، ومن ملامحها الرئيسة الفنون التشكيليّة، حيث اكتشف الناقد (ألفريد ستيفنس Alfred Stevens) أن اليابانيين هم التأثيريون الحقيقيون، وهذا ما جعل من الأنموذج الياباني حالة ضروريّة لتطوير التأثيريّة الأوروبيّة التي كان ظهورها يمثل أهمية كبرى كحركة حيويّة جديدة، أوقفت حالة الجمود التي أصابت الفن الغربي في نهاية القرن التاسع عشر.
ويحدد الكتاب أبرز الفنانين الغربيين الذين تأثروا بالفن الياباني ومنهم: كلود مونيه (1840-1926) حيث استلهم من هذا الفن التكوين العمودي في عمله الشهير (غداء على العشب). ثم اكتشف الفنانون الأوروبيون المحفورات اليابانيّة المطبوعة، فتأثروا بها، الأمر الذي أتم عملية التغيير الكاملة للنظام الجديد في التكوين في أعمال التأثيريين، وكان للتقانات اليابانيّة دورها الرئيس في صياغة ذلك النظام، ما حوّل الفن الياباني إلى عنصر من عناصر الحداثة الأوروبيّة التي أخذت من الفن الياباني جماليات التكوين العمودي، وعمقه، وفسيفساء الوحدة الرباعية، واستخدام الشكل الظلي، والتقطيع المفاجئ لعناصر العمل الفني، والتكوين متعدد الأطر، والوحدة الزخرفيّة، كقيمة تعبيريّة.
ويسوق الكتاب الفنان النمساوي غوستاف كليمت (1862-1918) مثالاً على المتأثرين بالجماليات الشرقيّة، خاصةً وأن هذا الفنان اعتبر تراث العالم بأكمله ملكاً له، فاحتوت أعماله لمحات من هذا التراث، نسجها بخصوصيّة من خلال طابعه الفني المتميز، ويُعتبر من الفنانين الذين أقروا بإدماج كل أشكال الفن تحت عباءة الفن المعماري، لذا فإن الكثير من أعماله تُرجمت إلى أعمال حائطيّة كبيرة، وأهمها التي قدمها في قصر (ستوكلت) في بروكسل 1910.
وعي أوروبي جديد
يشير الكتاب إلى ظهور وعي أوروبي جديد في العصر الحديث، يُطالب بمناقشة الأنموذج الثقافي الغربي الذي فُرض على العالم، ويتناول العقليّة الأوروبيّة بالنقد، محاولاً إعادة كتابة تاريخ العالم من منظور أكثر موضوعيّة وعدلاً بالنسبة إلى مساهمة كل الحضارات الإنسانيّة في تاريخ العالم، ما يؤدي إلى إعادة التوازن للثقافات الإنسانيّة.
إن تلك الهيمنة الثقافيّة التي تمثل صورة أكثر تحضراً من صور الاستعمار، مستمرة الآن في صورة ما يُعرف بالعولمة الثقافيّة، التي تهدف إلى إحداث تقارب بين ثقافات شعوب العالم المختلفة، لدرجة ذوبان الفوارق الحضاريّة بينها، وصهرها جميعاً في بوتقة ثقافيّة واحدة، ذات خصائص مشتركة واحدة، إلا أن الثقافة المعولمة أو التي يُراد تعميمها، هي في الواقع ثقافة الغرب الرأسمالي بما تحمله من مبادئ وقيم ماديّة في جوهرها، ولا تستقيم حياة الإنسان ككل، إذا ما عاش وفقاً لهذه الثقافة الماديّة. ومن ثم فإن الإنسان، وإن تظاهر بقبول هذه الثقافة، أو تعلق بها لفترة، فإنه حتماً سيكتشف أوجه قصورها.
وليس ببعيد عن إدراكنا، أن هناك وعياً أوروبياً جديداً قد طرح نفسه من خلال فكر بعض فلاسفة الغرب المعاصرين الذين أدركوا جيداً هذه الحقيقة، وحذروا من سيادة الأنموذج الثقافي الغربي التقليدي على الغربيين أنفسهم، بل بشّروا بانهيار الحضارة الغربية ككل إن لم تتراجع عن هذا الأنموذج المادي في النهوض الحضاري، وعلى رأس هؤلاء الفلاسفة: شبنغلر، توني، وأشفيتشر، حيث احتلت الحضارات الشرقيّة حيزاً أساسياً في القيم البديلة التي صاغوها، بغية رأب الصدع الداخلي الزاحف على الثقافة الأوروبيّة.
ينتهي الكتاب إلى حقيقة تقول بأن الفنون الشرقيّة فنون حافلة بالتنوع والثراء، وتحتاج إلى المزيد من التأمل والقراءة والبحث، سواء على مستوى الدراسات التاريخيّة، والجماليّة، والنقديّة، بحيث نفرد لها ما افتقدته من مساحات في تاريخ الفن تتناسب مع قيمتها الحقيقيّة، أو على مستوى الرؤية الفنيّة من قبل الفنانين الشرقيين المعاصرين كمصدر خصب للإبداع، يخلق حالة من التوازن في استجاباتهم التي تتجه غالباً ناحية الغرب، حيث إن التطور المادي والتكنولوجي، لا يعني بالضرورة تطوراً فنياً أو حضارياً أو إنسانياً.
التاريخ: الثلاثاء6-8-2019
رقم العدد : 17042