كان قدر العربي أن يبقى في مهب الريح لا يعرف استقرارا بمكان ما من الواحات إلى الصحارى ومن الصحارى إلى بقاع شتى لا أحد يعرف حدودها.. فيكون الحنين إلى المنازل والشوق لها.. هذا مذ كان الشعر الجاهلي إلى اليوم لم يتغير عن الحديث عن الاطلال ابدا..
تغيرت الاطلال فقط من مكان لآخر وظل التشرد وبقيت الاطلال التي تعددت من خيمة إلى بيت من حجر إلى بقايا حضارة كانت ذات يوم.
نزار قباني الشاعر السوري الذي انتشرت قصيدته في مطلع الحمراء انتشار النار بالهشيم:
قالت: هنا «الحمراء» زهو جدودنا
فاقـرأ على جـدرانها أمجـادي
أمجادها؟ ومسحت جرحاً نـازفاً
ومسحت جرحاً ثانيـاً بفـؤادي
يا ليت وارثتي الجمـيلة أدركـت
أن الـذين عـنتـهم أجـدادي
عانـقت فيهـا عنـدما ودعتها
رجلاً يسمـى «طـارق بن زياد»
ليس وحده من طاف هناك وبحث عن الأجداد ما اكثر الشعراء الذين فعلوا ذلك.. في الجعبة عشرات الأسماء.. مشوا الخطوات نفسها لكن الابداع ليس نفسه.
ناتالي حنظل شاعرة من أصول فلسطينية ولدت وعاشت في الولايات المتحدة عبرت الدروب نفسها ولا ندري إن وقفت عند زفرة العربي الاخيرة.
قيض لها بل من حسن حظها أن شاعراً وناقداً ومترجماً سورياً هو الدكتور عابد إسماعيل قد نقل ديوانها إلى العربية وصدر عن دار التكوين بدمشق التي أثرت المكتبة العربية بكل ما هو متميز بإشراف مديرها العام الشاعر سامي احمد.
شاعرة في الأندلس هو عنوان ناتالي حنظل, في الدراسة المهمة والمعمقة التي وضعها الدكتورعابد عن الديوان يقول:
ليس خافيا أن حنظل تركز كثيراً على استعادة غنائية لوركا وخاصة فكرته عن الحنين,هي الفلسطينية المقتلعة من ارضها الحالمة بالعودة إلى وطنها حالها كحال محمود درويش الحاضر في اكثر من قصيدة,لكن حنين حنظل في الديوان ينصب على الأندلس هذه المرة كمن يريد استعادة وديانها وسهولها وزهورها حتى أن بعض قصائدها تتماهى أو تنصهر مع المكان, وتنضح حسية بما تختزنه من تفاصيل ومنظمات محلية.
فإذا غاب كل شيء لا تغيب صورة الأندلس وتظل ماثلة في القلب, تقول حنظل في قصيدة «ماذا عن الريش؟»: احتفظنا فقط بالمفاتيح الرسائل.. كل شيء آخر تركناه خلفنا حين غادرنا البيت /يمكن لهذا أن يحدث.. بين ليلة وضحاها/حين يصير أولئك الذين تعرفهم بوابة من ريش «واذا ما ذكرنا الريش فإنهم يعرفون ما اضاعوا منذ سنين وانا أراقب بيت جاري من نوافذ أخرى بلدان مختلفة بيوت مختلفة»
وفي مكان آخر من الديوان: بما أنني اقول وداعا واكتب عن الرحيل..أشعر أنني على قيد الحياة «بما انه لا يوجد ما هو عاجل وكل شيء هنا..الان حيث الانتظار يجعلنا بعيدين عن غابة الاشواك».
وفي نصها الطويل المعنون بـالحنظل وأسوار قرطبة تصل الذرا التي تريدها كل التاريخ هنا.. عطرا عبقا جمالا وردا بهاء, تتقاطع مع نزار قباني عند جمال الدهشة ولكن لكل شاعر لهفته, اسلوبه, لغته.
تقول حنظل: تقول لي بهدوء كأنما لا يجب أن يسمعك أحد.. ثم تسأل اين هي مدن طفولاتنا ومدن ميتاتنا من ستكونين انت؟
أقول لك: سأكون قمة الهضبة والأرض التي تنشطر لكي تتفتح زهور الياسمين.. سأكون البئر حيث يلتقي الماء بالماء..سأخترع لغتي الخاصة استعاراتي.. شوارعي وذنوبي «جدراني الخاصة ومدني الخاصة».
حنظل الشاعرة التي أرادت أن تقتفي الاثر تمشي على دروب ابن زيدون وولادة ولوركا الشاعر الذي كانت له رحلته إلى الولايات المتحدة وطوافه في مدنها والحصيلة سجل من الابداع حنظل التقطت هذا العطر الذي تبوح أو تضوع به بقايا الجمر الذي اتقد هي الأقدر على معرفة ماذا أن يقتلع المرء من قارورة العطر.. من وطنه.. ونزار الذي ترك بيته الدمشقي مطوفا في العالم حمل معه قارورة العطر التي ولد فيها..
حنظل تخترع كما تقول: اخترع ما هو ضروري.. اسحب الماء من اعماق الارض واتوقف عن قياس الصمت.. بين شفتي وشفتيك.. ينبغي أن نكوي تجاعيد ملابسنا.. فالجراح لا تنفتح إلى جراح اخرى.
بقي أن نشير إلى أن للشاعرة مجموعة مهمة من الأعمال الأدبية والدراسات.. والمترجم الدكتور عابد إسماعيل قدم للمكتبة العربية عشرات الكتب النقدية المؤلفة والمترجمة وغيرها من الأعمال الشعرية المهمة..
صدر معظمها عن دار التكوين بدمشق.
يمن سليمان عباس
Yomn.abbas@gmail.com
التاريخ: الأحد 11-8-2019
رقم العدد : 17047