شعراؤنا الرواد والتنوير

 

 

 

 

قام مفهوم التنوير الأوربي والنهضة الأوربية على العودةِ إلى العقل الإنساني لتجاوزِ العصور الوسطى برؤاها الغيبية، والانتقال من الماورائيات والخرافات إلى الواقع الإنساني البشري، من المقدسِ إلى النسبي، ومن الكائن الأعلى إلى الإنسان الدنيوي، وبالتالي فقد كان على الإنسان أن يأخذ زمامَ أمرهِ بيدهِ، بدلَ إلقائهِ على الكائن الأعلى، وهذا ما جعلهُ يشرع في بناءِ مؤسساتهِ الوضعيِّة، ويبدع قوانينه ونظمه، بل وفنونه المناسبة للمرحلةِ الجديدة- كما عبَّر محمد كامل الخطيب- فها هو ذا التعليم ينتقل من المعابد والكنائس إلى المدارس والجامعات، وينتقلُ تمثيلُ الشعب وحق التكلم باسمهِ من رجال الكهنوت والسلطان إلى صناديق الاقتراع والمجالس النيابيّة.. ولم يعد الحاكم ظل الله على الأرض، أو خليفته بل غدا إنساناً عادياً ينتخبه أقرانه من البشر، وقد يعزلونه إن أرادوا.
ومثلما ترافق كل ذلك بقوانين وتشريعات ورؤى خاصة؛ فقد ترافق أيضاً بظهور فنونٍ وأجناس أدبيّة جديدة تعبر عن هذا العالم (الدنيوي البشري) الجديد، عن هذهِ الحياة العلمانيّة الناهضة؛ فجاء النثر القصصي، يصوّر الحياة المعيشية اليوميّة بلغتها… من قصّةٍ ومقالةٍ ومسرحيّةٍ ورواية، وكان التصوير الضوئي كوثيقة تسجيلية؛ ثم كانت السينما لتقدم الإنسان اليومي غير المقدس! مثلما كانت الطباعة قبل كل هذا قد أشاعت حق المعرفة ونشرتها للجميع وكسرت احتكار الكهنة والفقهاء والملوك لها!
ولعلّ هذا ما سعت إليه (النهضة العربيّة منذ مطلع القرن التاسع عشر، ولا سيّما في مصر وسورية حيث انطلقت حركة تنوير كان من أعلامها الطهطاوي، وخير الدين التونسي، ومحمد عبده، والأفغاني، وابن باديس، وسلامة موسى، وطه حسين، وسامي الكيالي، ومحمد أحمد السيد، وساطع الحصري وسليم خيّاطه، ونخبة فيما بعد من كتاب الصف الثاني من القرن العشرين)
وانطلقت محاولاتٌ جادة ومخلصة لإحلالِ مؤسسات الإنسان وقيمه مكان المؤسسات المقدسة القديمة وثقافاتِها، وجرت محاولاتُ خلق مجتمع مدني في موضع المجتمع الديني، وتغيّر تحديدُ جوهرِهِ من جوهرٍ قائم على الانتماء الديني وآخر يقومُ على انتماء الفرد من الملة والطائفة والقبيلة إلى المواطنة والشخصيّة الفرديّة، وعَبر الشعراءُ قبل غيرهم عن ذلك بصور فنية أقرب إلى العفويّة؛ كأن نقرأ للشاعر رشيد سليم الخوري (1887 – 1984) القروي:
إني على دين العروبةِ واقفٌ قلبي على سُبُحاتِها ولساني
إنجيليَ الحبُّ المقيمُ لأهلها والذودُ عن حرماتها فُرقاني
يا مسلمونَ ويا نصارى دينكم دينُ العروبة واحدٌ ولا ثاني
وكأن نقرأ أيضاً لمحمد سليمان الأحمد (1904 – 1981) بدوي الجبل قولهُ عام 1922:
لبنانُ والغوطةُ الخضراء ضَمّهما ما شئتَ من أدبٍ عالٍ ومن نسبِ
ما في اتحادِهِما تالله من عجبٍ هذا الفراق لعمري منتهى العجبِ
كلّ الربوع، ربوع العربِ لي وطنٌ مــا بيـنَ مبتعــدٍ منـــها مقتـــربِ
للضـــــادِ ترجعُ أنســـــــابٌ مُعَّرقةٌ فالضــــــادُ أفضــلُ أمٍّ بَــرّةٍ وأبِ
ولا شك أن مثل هذهِ الرؤى في ذلك الوقت لاقت مُحاربةً وإنكاراً شديداً عند كثير من أصحاب الفكر القديم وهيئاتِهِ التقليديّة، حتى سمعنا القروي يشكو ذلك:
لم يعن هذا الشعب أني شاعرٌ حُرُّ يحبُّ بلادَهُ متفاني
بل كل ما يعنيهِ: هل أنا مسلمٌ للهِ أم لم أزل نُصراني
وانتقلت في بلادنا أشكال الحُكم من السلطنة والخلافة إلى المؤسسات المدنية، فأنشئت مجالس تمثيليّة وغيرها ونشأت -كما أشرت- فنون جديدة لدينا كما كان الحال في أوربا كالرواية والمسرحيّة والتصوير، وانتشر نمطٌ من البناء وتخطيط المدن الحديث، وعَمّ التعليم وتكاثرت المطابع ودور النشر والصحف، ومحطات البث الإذاعي، وتقدّمت قضية المرأة ولم يعد – إلا القليل – يغفل دورها في المساهمة بتحقيق نهضة الأقطار العربيّة، ها هو أحمد شوقي عام 1924 يشيرُ إلى ذلك في قصيدتِهِ الشهيرة يومها (مصر تجدّدُ مجدها بنسائِها المتجدّدات).
وسيقف الشاعرُ المنوّر مع المرأةِ المبدعة وإنجازاتها، ويسهمُ في تقديمها للناس، ويقدّمُ بها الشهادة التي يستحقها؛ كما فعل الشاعر خليل مردم بيك (1895 – 1959) عندما كتب مقدمةً لمختارات ماري عجمي عام 1944 الصادرة عن الرابطة الثقافية النسائية في دمشق.
وجرت أيضاً تطوّرات في وسائل إنتاج الإنسان بصورة عامة، فرأينا العربيَّ ينتقل من وسائل الإنتاج الطبيعية (إلى تلك الآليّة، فإلى جانب الأرض والحيوان والقوة البشرية كأدوات إنتاج، أصبحنا نرى المعامل وخطوط السكك الحديدية والمحركات، ورافقَ الشعراءُ الروّادِ هذهِ التغيرات ودعوا لتمجيد العمل والعمال، والأخذ بأسباب التقدم الصناعي، ووجدنا بينهم في الآن نفسه من دعا العمّال للعمل بإخلاص وجد، فلولا عملهم لكانت الأرضُ يباساً وخراباً؛ وقد قرأنا خطاب شوقي بدايات القرن الماضي الموجه للعمال.
ثمَّ انعكسَ ذلك على الدعوة للأخذ بأسباب العلم الحديثِ وبالاقتصاد والمال كوسيلة لبناء الدولة، كما فعلَ شوقي أيضاً.
وكان لا بدَّ في تلك المرحلة من التركيز على دور المعلم في تحقيق النهضة،
فكتب فيه شوقي والأخطل الصغير وغيرهما.
ومن القضايا التي طرحها عصرُ النهضة العربية بقوة، قضية الاستقلال عن الغرب والتحرر من جيوشهِ الغازية، مع الأخذِ من علومــهِ وحضارتهِ وتقاناتهِ وأفكــــارهِ، وهنا سنجدُ الشعراء الرواد قد كتبوا جميعاً في ذلك، ومجدوا الثورات ضد المستعمر الأوربي، وأبطال تلك الثورات وقادتها وشهداءها، أذكر من أولئك الشعراء في سورية ولبنان على سبيل المثال: خير الدين الزركلي، ويوسف غصوب، و وديع عقل، وبشارة الخوري، وخليل مردم بيك، وشفيق جبري، ومحمد سليمان الأحمد، وبعض شعراء المهجر في تلك المرحلة وفي مقدمتهم القروي.
لقد حملت قصائد الشعراء الرواد ومن تلاهم من الشعراء البناة والمجددين (قيماً تنويريّة عديدة؛ ولا سيما أنهم رأوا وقرؤوا كيف تمكنّت شعوبٌ أخرى من تجاوز حالاتِ جهلها وتأخرّها.
أما نحن وبعدَ ما لا يقل عن مئةِ سنة، وقد دخلنا الألفيّة الثالثة، ما زلنا نتساءَل هل انتهى عصر النهضة العربيّة؟ هل أصبَحَ جثة هامدة كما يرغب السلفيون…
لكنَّ قضايا ومهمّات عصر النهضة، عصر التنوير لا تزال قضايانا، ومهماتنا في بناءِ مجتمعٍ مدني، في إعادةِ تحديد عشرات المفاهيم وأوّلها مفهوم الأمة، وفي إعادة بناء مؤسسات المجتمع وتنظيمها، وقد دَمرها التطرّف والتعصب والظلام والتكفير، بل في إعادة بناء الإنسان على قيم التنوير والنهضة بعد أن دَمّرته الحرب وأعادته إلى علاقاتِ ما قبلِ الدولة؛ وجعلته حطاماً!!
د. ثائر زين الدين
التاريخ: الأحد 11-8-2019
رقم العدد : 17047

آخر الأخبار
مزاجية ترامب تضع أسواق النفط على "كف عفريت" اجتماع لتذليل الصعوبات في المستشفى الوطني باللاذقية متابعة جاهزية مجبل الإسفلت بطرطوس.. وضبط الإشغالات المخالفة بسوق الغمقة الحرب التجارية تدفع الذهب نحو مستويات تاريخية.. ماذا عنه محلياً؟ الرئيس الشرع يستقبل وفداً كورياً.. دمشق و سيؤل توقعان اتفاقية إقامة علاقات دبلوماسية الدفاع التركية تعلن القضاء على 18 مقاتلاً شمالي العراق وسوريا مخلفات النظام البائد تحصد المزيد من الأرواح متضررون من الألغام لـ"الثورة": تتواجد في مناطق كثيرة وال... تحمي حقوق المستثمرين وتخلق بيئة استثماريّة جاذبة.. دور الحوكمة في تحوّلنا إلى اقتصاد السّوق التّنافس... Arab News: تركيا تقلّص وجودها في شمالي سوريا Al Jazeera: لماذا تهاجم إسرائيل سوريا؟ الأمم المتحدة تدعو للتضامن العالمي مع سوريا..واشنطن تقر بمعاناة السوريين... ماذا عن عقوباتها الظالمة... دراسة متكاملة لإعادة جبل قاسيون متنفساً لدمشق " الخوذ البيضاء" لـ "الثورة: نعمل على الحد من مخاطر الألغام ما بين إجراءات انتقامية ودعوات للتفاوض.. العالم يرد على سياسات ترامب التجارية "دمج الوزارات تحت مظلّة الطاقة".. خطوة نحو تكامل مؤسسي وتحسين جودة الخدمات بينها سوريا.. الإدارة الأميركية تستأنف أنشطة "الأغذية العالمي" لعدة دول The NewArab: إسرائيل تحرم مئات الأطفال من التعليم الشعير المستنبت خلال 9 أيام.. مشروع زراعي واعد يطلقه المهندس البكر في ريف إدلب برونزية لأليسار محمد في ألعاب القوى استجابة لمزارعي طرطوس.. خطّة سقاية صيفيّة