الملحق الثقافي:إعداد: رشا سلوم :
تمر ذكرى رحيل شيخ الروائيين العرب، حنا مينة الذي أطلق مقولته الشهيرة: الرواية ديوان العرب، فانتشرت انتشار النار في الهشيم، وتداولها الكثيرون، كل يستعملها دون الإشارة إلى صاحبها. حنا مينة هو أيضاً الذي قال ذات يوم: أخشى ألا أموت، لقد شبعت من الحياة. في ذكرى رحيله نستعيد بعضاً من كلماته الخالدة التي عبر فيها عن بعض محطات حياته:
لم أكن أتصور حتى في الأربعين من عمري أنني سأصبح كاتباً معروفاً، بدأت رحلة التشرد وأنا في الثالثة من عمري، وهذه الرحلة من حيث هي ترحال مأساوي في المكان، عمرها الآن ثمانون عاماً، أما رحلتي في الزمان فهي أبعد من ذلك وستبقى ما بقيت.
كان أبي رحمة الله رحالة من طراز خاص، لم ينفع ولم ينتفع برحلاته كلها، أراد الرحيل تلبية للمجهول، تاركاً العائلة أغلب الأحيان، وفي الأرياف للخوف والظلمة والجوع، ولطالما تساءلت وراء أي هدف كان يسعى؟ لا جواب طبعاً، إنه بوهيمي بالفطرة.
كنت عليلاً، أمي وأخواتي الثلاث عملن خادمات، عملت أنا الصبي الوحيد، الناحل، أجيراً.
بداياتي الأدبية كانت متواضعة جداً، فقد أخذت منذ تركت المدرسة الابتدائية بكتابة الرسائل للجيران، وكتابة العرائض للحكومة، كنت لسان الحي إلى ذويه، وسفيره المعتمد لدي الدوائر، أقدّم لها بدلاً من أوراق الاعتماد عرائض تتضمن شكاوي المدينة ومطالبها، هنا كنت صدامياً ومنذ يفاعتي: إننا جياع، عاطلون عن العمل، مرضي، أميون، فماذا يريد أمثالنا؟ العمل، الخبز، المدرسة، المستشفى، رحيل الانتداب الفرنسي ومطالبة الحكومة في فجر الاستقلال أن تفي بوعودها المقطوعة لأمثالنا… بدأت حياتي الأدبية بكتابة مسرحية دونكيشوتية، صرخت فيها علي كيفي، غيرت العالم علي كيفي، أقمت الدنيا ولم أقعدها، ضاعت المسرحية ومنذئذ تهيبت الكتابة للمسرح ولم أزل، القصص ضاعت أيضاً، لم أشعر بالأسف وكيف أشعر به وحياتي نفسها ضائعة؟ ثمّ إنني لم أفكر وأنا حلاق وسياسي مطارد بأنني سأصبح كاتباً، كان هذا فوق طموحي رغم رحابة هذا الطموح. صدقوني إنني حتى الآن كاتب دخيل على المهنة وأفكر بعد هذا العمر الطويل بتصحيح الوضع والكف عن الكتابة، فمهنة الكتابة ليست سواراً من ذهب بل أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة.
لقد كتبت عن مصادفات في حياتي كنت فيها قريباً من البحر وقادراً أن أكون بجواره، ولكنني لا أقبل أن أقيم إلا في بيتي في دمشق التي أحبها جداً وأتغزل بها حيثما ذهبت.
حملت صليبي منذ ستين عاماً ولم أجد من يصلبني لعلني أستريح، لقد بت أكره الكتابة بت أكره هذه المهنة الحزينة التي لا فكاك منها إلا بالموت، وقد بت أخاف ألا أموت، وكان ذلك عقاباً لي علي اختراقي للمألوف، أعيش في قلق، وأبارك هذا القلق ثلاثاً وألعن الطمأنينة، دودة الفكر التي تنقب في دماغي لا تتركني أستريح والنفس تأبى أن تستريح، الروح المجروحة المدماة لا تشيخ بل تنزل مع صاحبها إلى القبر، الجسد هو الذي يخون وقد خانني جسدي.
عشت عمري كلّه مع المغامرة، كنت على موعد مع الموت ولم أهبه، الموت جبان لمن ينذر له نفسه. ثمانون عاماً تضعني على مزلقها والموت الذي أسعى اليه يفرّ مني!
دكتور حنا
الراحل الدكتور عادل العوا، أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق، سألني وأنا إلى جانبه في إحدى المناسبات: «دكتور حنا، من أي جامعة تخرّجت؟» أجبته بغير قليل من الجدية «من جامعة الفقر الأسود!» قال: «عجيب، أنا لم أسمع بهذه الجامعة!».
الدكتور العوا كان طيباً، درس الفلسفة وعلّمها في جامعة دمشق، لكنه، كما يبدو، انصرف إلى قراءة الفلسفة، وتعليمها، وكتب بعض المؤلفات، ومنها كتابه المعروف «الكرامة»، ولم يكن لديه وقت لقراءة الأدب، وهذا مؤسف، إلا أنه واقع، فالطبقة الليبرالية في سورية، وربما في الوطن العربي أيضاً، لا تقرأ الأدب، ولماذا تقرأه، وهي تسعى إلى ما هو أنفع، فمتاع الدنيا الغرور، ينفع كثيراً، سواء في الوجاهة، أو جمع ما يؤكد هذه الوجاهة، ويثبتها، ويجعلها بريقاً أصفر، يسطع كنور الشمس في أيام الصيف، وتبقى قراءة الأدب ترفاً، يمارسه من ليس له ترف، في الوجاهة أو السيادة، أو المكانة المرموقة في المجتمع، مثل بعض المثقفين، والطلاب الجامعيين، والشرائح التي تسعى إلى المعرفة، لإدراك ما يجري في العالم من حولها، عربياً ودولياً!
بالنسبة إلي، أنا خريج جامعة الفقر الأسود، الفقر نوعان: أبيض كالذي أعيشه الآن، وأسود كالذي عشته في طفولتي، حين كنت جائعاً، حافياً، عارياً، حرصت أمي، على إدخالي المدرسة، كي يتعلم «فكّ الحرف»، وأن أصبح، بعد فكّه، كاهناً أو شرطياً، ولا توسط بينهما، وبعد أن كبرت، وألقيت بنفسي في التيار الهادر لمقاومة الاحتلال الفرنسي، تمنت الأم لو لم ترسلني إلى المدرسة، وأن أكون راعياً، بدل أن أكون مكافحاً في سبيل الاستقلال، وما عانيته في السجون الفرنسية، وحتى السجون الوطنية، على امتداد عهد الإقطاع، بعد الاستقلال، كان يؤرقها.
آمال الأم خابت كلها، فلم أرتسم كاهناً، ولا دخلت سلك الشرطة، أو قدّر لي أن أكون راعياً، مع أنني مارست من المهن ما هو أبشع منها وأفظع، فقد عملت، كما هو معروف من سيرة حياتي، أجيراً وأجيراً وأجيراً، وتطوعت في البحرية بعد دخول قوات فرنسا الحرة إلى سوريا، في الحرب العالمية الثانية، ولما لم يكن لي حظ التعبئة والتسويق إلى العلمين، لقتال جيش رومل، ذئب الصحراء، فقد تركت الخدمة كجندي في البحرية، لأصبح بحاراً، لمدة قصيرة، على المراكب الشراعية، التي تنتقل بين مرافئ المتوسط العربية، وعلى هذه المراكب، خلال العواصف، عاينت الموت، في نظرات باردة، لأفعى اللجة، ومن هنا كان ولعي بالبحر، ثم الكتابة عنه، عندما تعاطيت مهنة الحرف الحزينة، القذرة واللذيذة، حسب تعبير إرنست همنغواي، والتي لا انفكاك منها سوى بالموت.
لقد قلت، صادقاً، إنني ولدت بالخطأ، ونشأت بالخطأ، وكتبت بالخطأ، فالطفل العليل، الذي تنوس حياته كذبالة الشمعة الواهنة، لم تطفئ ريح المتون ذبالة شمعته، وبعد الإبحار على المراكب، غدا الرغيف خيَّالاً، وعلي، سداً لجوع العائلة، أن أركض وراءه، ولا أزال، وفي مزدلف الشوط، لم يكن لي، بعدُ، شرف الفروسية، فقد اضطررت للعمل حمالاً في المرفأ، ثم حلاقاً على باب ثكنة في مدينة اللاذقية، ومن الحلاقة إلى الصحافة، ومن الصحافة إلى كتابة المسلسلات الإذاعية، بالفصحى والعامية، ومنها إلى الوظيفة في وزارة الثقافة، وقبل ذلك إلى المنافي، لأسباب قاهرة، حيث التشرد في أوروبا، والنوم تحت الجسور في سويسرا، وطلب العمل، لا العلم، في الصين، وكل هذا، أو أكثره، معروف من القراء الأعزاء، أذكره للشكر لا لعرض الحال، والشكر، هنا، لأن حياتي الحافلة بالتجارب القاسية، قد نفعتني «أنا الحديدة التي تفولذت بالنار» في المقبل من أيامي، عندما بدأت بالكتابة الفعلية في الأربعين من عمري.
وصيته
قبل رحيله بفترة من الزمن، كتب وصيته التي انتشرت كالبرق بين محبيه، ومما جاء فيها
أنا حنا بن سليم حنا مينه، والدتي مريانا ميخائيل زكور، من مواليد اللاذقية العام 1924، أكتب وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية، وقد عمّرت طويلاً حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا، مع يقيني أنه لكل أجل كتاب.
لقد كنت سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذور للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء، وإني لمن الشاكرين.
عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يذاع خبر موتي في أية وسيلة إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي، وليس لي أهل، لأن أهلي، جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسروا علي عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية.
كل ما فعلته في حياتي معروف، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرست كل كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولما أزل.
لا عتب ولا عتاب، ولست ذاكرهما، هنا، إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمري كله، لا على الحظ، بل على الساعد، فيدي وحدها، وبمفردها، صفقت، وإني لأشكر هذه اليد، ففي الشكر تدوم النعم.
أعتذر للجميع، أقرباء، أصدقاء، رفاق، قراء، إذا طلبت منهم أن يدعوا نعشي، محمولاً من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاص مأجورين من دائرة دفن الموتى، وبعد إهالة التراب علي، في أي قبر متاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة.
لا حزن، لا بكاء، لا لباس أسود، لا للتعزيات، بأي شكل، ومن أي نوع، في البيت أو خارجه، ثم، وهذا هو الأهم، وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التآبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي، أستغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها.
كل ما أملك، في دمشق واللاذقية، يتصرف به من يدّعون أنهم أهلي، ولهم الحرية في توزيع بعضه، على الفقراء، الأحباء الذين كنت منهم، وكانوا مني، وكنا على نسب هو الأغلى، الأثمن، الأكرم عندي.
زوجتي العزيزة مريم دميان سمعان، وصيتي عند من يصلّون لراحة نفسي، لها الحق، لو كانت لديها إمكانية وعي هذا الحق، أن تتصرف بكل إرثي، أما بيتي في اللاذقية، وكل ما فيه، فهو لها ومطوّب باسمها، فلا يباع إلا بعد عودتها إلى العدم الذي خرجت هي، وخرجت أنا، منه، ثم عدنا إليه.
التاريخ: الثلاثاء27-8-2019
رقم العدد : 17057