في ستينات وسبعينات القرن الماضي، كنّا صغاراً، وكان بعض شباب قريتنا يعيشون في دمشق مع عائلاتهم، وفي الصيف – مع عطلة المدارس – كانوا يأتون إلى القرية وكنّا ننظر إليهم مهنئينهم على ما هم عليه من الرفاه والامتيازات الحياتية التي لا نعرف عنها شيئاً.
ففيما كنّا لا نعرف في الضيعة شيئاً إلا حقول التبغ، وكروم التين والعنب والزيتون، وبراري البطم والجوز والسنديان، ودروب القرية التي توصلنا إلى المدرسة بعد أن تكون أحذيتنا – ولم تكن تشبه الأحذية – قد أشبعها الطين التصاقاً، وقد رسمت على سراويلنا خطوطاً من الوحل جراء احتكاكها بالأحذية.
وفيما كانت أقصى معارفنا هي تلك المعلومات التي ننهلها من المناهج المدرسيّة، كان أبناء تلك العائلات يحدثوننا عن الشوارع والأسواق والمطاعم والمقاهي، والحدائق والسيارات، وعن الكهرباء والماء التي تصل إلى المنازل ففي كل بيتٍ نبع مياه يُفتح ويُغلق وقتما يشاؤون، ونحن لا نعرف عن ذلك شيئاً..!
كانوا يأكلون خبز الفرن الأبيض، ونحن لا نرى سوى خبز تنورنا الأسمر، فكنّا نوصيهم بأن يصطحبوا لنا معهم خبزاً أبيض من الفرن كي نلفّ به سندويشة بخبزنا الأسمر، وكم كنا نستمتع بتلك النكهة ..؟! لا الشاورما ولا الفلافل ولا سندويشة الهمبرغر تضاهي ذلك الطعم اللذيذ للخبز بالخبز ..! إنه خبز الشام مع قمح الساحل.. بالفعل نكهة النكهات.
كان أغرب ما يُحدثوننا عنه هو المعرض، ونحن (نتحرقص) ولا نعرف شيئاً عن هذا المعرض سوى أنها أرض تجمع آلاف الناس يفرحون ويتفرّجون على الأجنحة، ويتصورون بالكاميرات ويأكلون الحلوى والمكسّرات، والبوظة، ويشربون (الكازوز) .. ويحضرون حفلات من الغناء والرقص، لفيروز والرحابنة ونصري ووديع، كنّا نتخيّل بأن الأجنحة ليست سوى طيور عملاقة تفرد أجنحتها على الزائرين وتنقل أولئك الفنانين الرائعين الذين نسمع أغانيهم في الإذاعة، تحطُّ بهم في المعرض فيتفرج الناس وينتعشون، لتطير في نهاية المعرض وتعيدهم إلى لبنان..!
لم نكن نعرف بالفعل ماذا يعني المعرض..؟ كان في أذهاننا كالأسطورة.. إلى أن عرفناه.. وكان بالفعل أسطورة سورية وطنية.
فمعرض دمشق الدولي كان أقدم معارض منطقة الشرق الأوسط وأكثرها عراقة بتاريخه الحافل بالنشاط فهو بالفعل مرجعٌ وذاكرة زمان ومكان.
كان يمتد موقعه القديم في وسط مدينة دمشق من جسر فيكتوريا ومتحف دمشق الوطني حتى ساحة الأمويين بمحاذاة نهر بردى والساحات الخضراء ومجسماتها ونوافيرها الجميلة والأجنحة الوطنية والدولية التي تحتضن مشاركات العديد من دول الشرق والغرب، والتي كانوا يحدثوننا عنها ولا نستوعب الحديث.
تشير وثائق المعرض بأن أول معرض في دمشق أقيم في الأول من أيلول / سبتمبر عام 1954 واستمر لمدة شهر كامل وقد أقيم على مساحة وقدرها 250 ألف متر مربع وفاق عدد زواره مليون زائر من مختلف الدول، وشاركت في الدورة الأولى للمعرض 26 دولة عربية وأجنبية إضافة لعدد من المؤسسات والشركات الصناعية والتجارية السورية، وكان افتتاحه في الخمسينات حدثا دوليا اقتصاديا كبيراً حقق نجاحا فاق التوقعات، وكان النجاح على المستوى الاقتصادي والتجاري وكذلك على المستوى السياحي.
وبعد كل ما حصل في سورية لايزال معرض دمشق الدولي ذلك الحدث الدولي الاقتصادي الكبير، وبانتقال أرضه من جوار شارع بيروت على ضفاف بردى، في قلب العاصمة إلى أحد ضواحي دمشق على طريق المطار، وإقامة مدينة المعارض هناك، ازدادت المساحات والأجنحة، وصار قادراً على الاستيعاب أكثر.
ومثلما حاول أعداء سورية أن يُطفؤوا كل شيء مُنيرٍ فيها فإنهم اليوم يحاولون بكل بؤسهم وبغضهم وعنجهيتهم أن يطفؤوا شعلته، ولن يستطيعوا ذلك على أي حال، فما يزالون واهمين بأنهم أسياد العالم برعونتهم وحمقهم، وهم لم ولن يكونوا ذلك يوماً، فالولايات المتحدة الأميركية التي كانت في السنوات السابقة من السبّاقين للمشاركة في المعرض لأنها كانت تعتبره منصة اقتصادية حقيقية أمام صناعاتها ومنتجاتها للترويج لها في دول المنطقة والدول الأخرى المشاركة في المعرض، على قاعدة احترام السيادة والسلام والمعاملة بمنطق المحبة والتسامح، نراها اليوم – وهي تكاد تفقد كل ما بنته في هذه المنطقة – تحارب معرض دمشق الدولي بكل تفاهة، بعد أن أعرضت عن الاشتراك به، وبكل الأحوال فإن اشتراكها لا يُشرّفنا إطلاقاً، ولكننا نتساءل: ما الذي جرى واختلف منذ تلك السنين إلى اليوم..؟!
لا شيء سوى أكاذيبهم التي فبركوها بأنفسهم ويريدوننا أن نصدقها، ويريدون للعالم تصديقها أيضاً..! فهذا غير صحيح.. ولن يحصل، وإن كانت الظروف قد ساهمت بتجميد المعرض لعدة دورات فإن سنيَّ التعطيل لم تكن قادرة على إلغاء المعرض وطقوسه من ذاكرتنا المنتعشة بجماله وتفاصيله، فالمعرض باقٍ وسوف يستمر رغماً عن كل الأعداء، إلى أن تزول من خيالاتنا أجنحة الطيور العملاقة.. وطعم الخبز بالخبز.. وإلى أن ننسى:
شــــآم أهلوك أحبابي وموعـــدنا
أواخر الصيف آن الكرم يعتصر
نعتق النغمات البيـض نرشــفها
يوم الأماسي لا خمر ولا سـهر
وإلى أن تهجر الذاكرة :
سائليني حين عطرت السلام كيف غار الورد وأعتل الخزام
وأنا لو رحت استرضي الشـــذا لانثنى لبنان عطراً يا شـآم
أهلك التاريخ من فضلتهم ذكرهم في عروة الدهر وســــام
أمويون فإن ضقت بهم الحقوا الدنيا ببســــتان هشــــــــام
ولكن هذا لن يهجر الذاكرة، فقد ذاب بها واندمج مع خلاياها.. وانتهى الأمر.. فالمجد لسورية ولمعرضها الماضي كأسطورة جميلة وكحدث اقتصادي دولي بامتياز.
الثورة – علي محمود جديد
التاريخ: الخميس 29-8-2019
رقم العدد : 17059