الملحق الثقافي:ناظم مهنا:
الزمن ولحظة الأبدية
حظي مفهوم الزمن باهتمام أدباء القرن العشرين ومفكريه وفلاسفته. وعلى الرغم من كلِّ الكتابات حول الزمن بقي المفهوم غامضاً، بل ظل يزداد غموضاً، حتى انصرف الناس عنه في الآونة الأخيرة.
غموض مفهوم الزمن، ربما يعود إلى صعوبة فكِّ الارتباط بين الزمن الفيزيقي والزمن الأدبي، والزمن السيكولوجي، هذا التداخل المتنافر، أدّى إلى غياب ملامح الزمن المنطقي عموماً، وبات من الصعب القبض على المفهوم على الرغم من كثرة الدراسات التحليلية التي تناولته! وزاد الأمر التباساً أن الفيزياء الحديثة، قوَّضت أركان الفيزياء الكلاسيكية، وجعلتنا معلّقين بين النظرة السطحية والارتياب والارتباك في فهم الزمن.
وبما أننا من ذوي الميول الأدبية، سنوجِّه تفكيرنا، هنا، نحو الأدب وعالم الأدب.
إن واحداً من تعريفات الأدب، يذهب إلى أن الأدب مفهوم زماني، ولن أستعرض هنا كل ما قرأت من آراء حول الزمن، وعلاقة الأدب بالزمن، بل سأكتفي بالإشارات الضرورية من وحي قراءاتي، آملاً أنْ تُحرِّض على التأمل في الموضوع، وهو موضوع معرفي، خيالي وعلمي وحياتي وواقعي، مع التذكير بأن البعد المكاني يتقدَّم اليوم على هيمنة الزمن على السرد، ويخيل إليَّ أن الزمان والمكان متناظران مترابطان وغير متعاكسين.
في حياتنا، نلاحظ أنَّ ذاتنا والأشياء التي حولنا تتغيَّر، أو يطرأ عليها تغيرات في الشكل والمحتوى، وكل هذا يعود إلى الزمن. التغيُّر والحركة أكبر خبرة نعيشها، ونحن في حياتنا اليومية، تشغلنا التفاصيل والضرورات عن ملاحقة ما يجري، أو عن التأمّل الطويل فيه، أو في معنى الحركة والوجود، والثابت والمتغيّر، ولا نفكّر بذلك إلا عرضاً، ونغفل عن حقيقة أن أشياءَ كثيرة تمضي دون أن نلحظها، وحين نريد أنْ نستحضرها نستعين بالذاكرة التي تسعفنا أحياناً، وأحياناً، لا تسعفنا. من هنا ربما جاز القول عن وجود نمطين اثنين من الزمن، أحدهما زمن تتابعي، وآخر زمن منبثق تزامني، هذان الزمنان من موضوعات النقد الأدبي الحديث، ومن موضوعات الأدب، وتجلّت في بعض الروائع الأدبية الأشد نخبوية في تاريخ الإبداع الروائي، كما عند مارسيل بروست، وجيمس جويس، وهنري جيمس، وتوماس وولف..
هذا «الزمن الضائع» هو الزمن الذي يدرجه التتابع، ويلقي به طي النسيان، تجهد الذاكرة في أن تستحضره، وتجعله ينبثق في لحظتنا الحاضرة، في الآن، هذا الزمن المنبثق، المكثّف هو لحظة الأبدية، أشبه بالفردوس المفقود، لأنه زمن هارب، فار، زمن خارج عن إرادتنا، كلما توهّمنا أنّنا نقترب أو نوشك أن نقبض عليه، يفرُّ كما الماء من خلال الأصابع! هذا الزمن، ينشغل به قلة نادرة من المبدعين الأفذاذ، هو بحث صعب في وعي وأبعاد الحياة الإنسانية. إن محاولاتنا لفهم أبعاد الزمن، هي محاولة لفهم الإنسان والمجتمع، وفي الأدب هو محاولة لفهم الشخصيات وتطورها، وتاريخ وعيها، ولكشف وإدراك ما هو ثابت ومتغيّر فيها. يقول هانز ميرهوف في كتابه «الزمن في الأدب» ترجمة الدكتور أسعد رزوق صادر عام (1972م): «العقل الحديث يعي الزمن بعمق، كشرط جامع للحياة، وكعاملٍ لا بد منه في معرفتنا للإنسان والمجتمع..».
السرمدي، والأبدي، وزمن الديمومة، هو خارج الزمن، والزمن موضوع مشحون بالتناقضات التي لا يمكن حلّها أبداً…، و«الزمن ليس مفهوماً عقلانيّاً»، والواقع في نظر أدباء وفلاسفة قدماء وجدد، الواقع بلا زمن، وما وراء الزمن سرمدي وثابت، كما أسلفنا، و«الزمن وَهْمٌ وخدعة» لكن، إذا كان هذا صحيحاً، فكيف نشأ هذا الوهم، وكيف حيكت الخدعة؟!
على الرغم من هذا التشوش والغموض، يبدو الزمن، الخدعة أو الوهم، أشد حضوراً في حياتنا.
اليوم، لو توجهنا بالسؤال إلى الكتَّاب حول مفهومهم عن الزمن، ربما سنتلقّى إجابات متناقضة وذاتية، وقد لا نتلقّى إجابات.
في رسالة «برغسون» إلى وليم جيمس، يقول: «كان تحليل مفهوم الزمن، كما يدخل في علم الميكانيكا والفيزياء، هو الذي قلب جميع أفكاري رأساً على عقب، لقد رأيت، وكم كانت دهشتي عظيمة، أن الزمن العلمي لا يدوم» والمعالجة الأدبية للزمن كانت دائماً برغسونية، حسب هانز ميرهوف، بمعنى أن الزمن معطى مباشر من معطيات الوجدان. الزمن الأدبي الذي رسّخه برغسون «زمن الديمومة» هو زمن الانسياب والجريان المستمر، يقول برغسون: «لا يتميز اختبار الزمن باللحظات المتتابعة، والتغيّرات المتعددة فحسب، بل بشيء يدوم عبر التتابع والتغيّر» وعند هيدغر، صاحب الزمن الوجودي، الزمن دائماً هو القوة الأساسية للوجود.
موضوع الزمن شائك، مشكلة فلسفية، متنوعة ومتشعبة تحتاج إلى وقفات طويلة لمقاربتها. ولعلها فرصة للتنويه بكتاب «لحظة الأبدية» / دراسة الزمان في أدب القرن العشرين/ للكاتب اللبناني سمير الحاج شاهين، كتاب مهمٌّ في التأليف العربي لم يحظَ بالقراءة التي يستحق.
الخيال
لا شعر من دون خيال، عند الرومانسيين، الشعر بلا خيال ضرب من المستحيل، كانوا يثقون بالخيال وبقدرته على خلق عوالم. الخيال وحده هو الذي يجعلهم شعراء، في نظرهم، هو الطاقة الخلاقة، الجامحة… ولا يعتقد الرومانسيون أنهم في عبادتهم للخيال يبتعدون عن العقل، بل على العكس، يزعمون، إذا ما أطلقوا الخيال، أنهم يخلقون عوالم جديدة للعقل.
ربّما كان الكلاسيكيون، عبر العصور، يعملون على ضبط الخيال، لمصلحة الدقة، ومراعاة الذوق العام. والواقعيون أيضاً سفَّهوا الخيال، وقرنوه بالهذيان والجنون، وأخضعوه للتحليل والتشريح. لكن، لم يستطيعوا، لا قديماً ولا حديثاً فك الارتباط بين الأدب والخيال والأسطورة والحلم.
لم يكن الخيال هو العنصر الأساسي في الأدب والشعر عند الكلاسيكيين، وقيمة الخيال عندهم ضئيلة ومتفاوتة، وكانوا يعطون للبلاغة واستخدام المفردة المختارة واللفظ الفخم، والاستخدام المناسب للصور البيانية، الجهد الأعظم لتوظَّف في بناءٍ لمصلحة الفصاحة، فالصور الشعرية، التشبيهات والاستعارات والمجازات، والانطباعات البصرية، تضبط كلها وفق معايير التناسب، ومراعاة النظير، كما عند النقّاد العرب، فالخيال المنفلت، عندهم، ضلال ووحي من الشيطان، يذهب إليه الشعراء الممسوسون، ويهيمون فيه. كان الكلاسيكيون يحرصون بنبل على الصدق في التعبير عن المشاعر، والدقة في التصوير ونقل الوقائع، والشاعر عندهم مفسِّر أكثر منه خالق عوالم.
الرومانسيون، عبدوا الخيال، واستخفوا بالمنطق، رأوا أن أكبر نشاط حيوي للعقل هو الخيال، يقول وليم بليك، من أبرز وجهاء الرومانسيين الإنكليز: «عالم الخيال هو عالم الأبدية» وفي قول آخر، يرى بليك أن الخيال هو الإله الحقيقي ولكن لا أحد يعترف. أما الشاعر كيتس كان يقول: «الحقيقة المطلقة لا توجد إلا في الخيال وحده».
نحن اليوم في زمن لا يقيم وزناً للشعر، وينظر إلى الرومانسية على أنها مرحلة انقضت وانقطعت، والخيال العلمي هو النقيض المسموح به، أمَّا خيال الشعراء السحري والأسطوري لا يصلح سوى للأطفال، والحق أن الرومانسيين وعلى رأسهم كولريدج، كان يقول: «الشاعر هو الإنسان الذي يحمل بساطة الطفولة إلى قوة الرجولة، وهو الذي يتأمل الأشياء كلها بدهشة الطفل ونضارته».
الغابة الضائعة
كنت كلما نويت أن أضبط عادة القراءة اليومية أو أقلّصها، نتيجة الإرهاق الذهني والبصري من جهة، ورغبة في إعطاء وقت أوفر للكتابة، أجد نفسي أرضخ لهذه العادة التي تسيدت على حياتي منذ المراهقة وإلى اليوم، وعن علاقتي بالكتب، أستطيعُ أن أروي قصصاً وأكتب روايات وذكريات.
في الأيام القليلة الماضية وصلتني دفعة من الكتب التي لا يمكن مقاومتها، والكتاب الذي جعلني أترك من يدي كل شيء وأنصرف إليه هو كتاب «الغابة الضائعة» مذكرات الشاعر الإسباني المعمّر رفائيل ألبرتي، وصلني من العراق الحبيب هديّةً من الصديق الأديب العراقي مؤيد الطلال، كتاب كبير في جزأين، يكاد يغطي القرن العشرين بكامله، بحروبه واضطراباته وأهم مبدعيه وعلاقة ألبرتي بهم، من شعراء وأدباء وفنانين ومفكرين وقليل من السياسيين، رفيقه لوركا، ونيرودا، وبول إيلوار، وأراغون، ومايكوفسكي، وبيكاسو، ودالي، ولويس بونويل، وميغيل أستورياس، وأكتافيوباث… ومشاهير يصعب حصرهم من أوروبا والأمريكيتين، غابة متنوعة الأشجار ومتعددة الينابيع والأنهار، وعذبة الينابيع، كتاب بمنزلة مائدة واسعة ممتدة فيها أفخر ما أنتجه القرن العشرون.
للصديق مؤيد، وللعراق الذي نرجو أن تأتي باستمرار نسائمه الثقافية ونتبادل معه ثمار الفكر، كل الشكر.
أشباح منتصف النهار: الساتورا الجديدة
كوابيس الحرب، كتبها الصديق الشاعر عابد إسماعيل، المسكون بالشعر وبالأفكار، وهو العارف بخرائط الكتابة، أزمنتها ومنعرجاتها.
العمل الأدبي الحقيقي، صدوره يشكِّل حدثاً، فكيف إذا كانت الكتابة تنبض بهذا المقدار من مأساة الحرب ووحشيتها، الحرب التي تحوّل البشر إلى أشباح؟!
في الاستهلال، يعرِّف عابد مقاطعه المتتالية، التي كتبت في مكان محدد وزمان واحد، هو زمان الحرب، بأنها: «شذرات، ومضات حائرة بين النثر والشعر، أوحت بها الحرب». هكذا دون تبجح أو ادّعاء تطل علينا الكلمات المشحونة بالتهكم، والحافلة بالإحالات والإشارات المتناغمة مع الخراب. نصوص لقصيدة واحدة، من الذات إلى الموضوع، من الداخل إلى الخارج، من الشعر إلى السرد، هذه التبادلية، هي فجوة التوتر الكبرى في القصيدة، في حين تَعبُر الكلمات فضاء النثر والشعر بِحِرَفِيَّة عالية، إنها نوع جديد من «الساتورا» القديمة، الساتورة المينيبية، أو الهجائية المينيبية، نسبة إلى مينيبوس الشاعر السوري من جادارا (أم قيس) ابن النصف الأوّل من القرن الثالث قبل الميلاد، مبدع الأسلوب الهزلي والجدي معاً، وإليه تُنْسَب الساتورا التي يُخلَط فيها الشعر بالنثر، وكل أساليب الكتابة والموضوعات والأزمنة والأشياء والواقع والأسطورة.
إذ لا يوجد شيء خارج الكتابة، في الساتورا الجديدة، هذه التي أعدُّها هجائية عصر الخراب الجديد!
كتاب شعري مدهش، يستحق أن يكون عزاء ومفخرة لنا في عالم الكتابة، وأن نعلن أن الشعراء السوريين قادرون على الإبداع في زمن الحرب والحصار، والكتابة الجديدة التي يعد عابد أحد أركانها قادرة بجدارة أن تخترق التفاهات التي اقتحمت أرضنا وعالمنا وفضاءنا، وعلى استخراج «غيرنيكات» خالدة.
كتاب رائع بنصوصه وهوامشه، وإلى أي جحيم آخر أخذتنا أيها الشاعر الفنان؟! من أجواء هذا العمل أقتطع المقطع /24/ بالترقيم اللاتيني:
«لم يمت رمياً بالرصاص، كما أشيع، أو بشظية طائشة، أو حتى بسكتة قلبية. لم يمت بطعنة في الظهر أو بانفجار غامض خلف مبنى البرلمان، أو حتى بحادث سير تافه. ونحن الذين دفنّاه على عجل، لم نجد على جسده أثراً لجرح، أو كدمة، أو وشم. قلنا في سرنا لعله مات أشلاء، ذرات لا تُرى بالعين المجردة. نغمات موسيقية لا تُسمع إلا في أقصى درجات الصمت. لعله صار خيالاً أو طيفاً، يسري في الحلم واليقظة، أو بين الوهم والوهم، وربما لم يمت البتة. وحين دفناه، نحن الذين دفناه، لم نكن ندفن شخصاً أو شبحاً، أو شيئاً. لعلنا دفنَّا ضباباً، أو إشعاعاً أو فكرة. لم يمت، هذا الذي مات، وحيداً، في غرفة ضيقة، مختنقاً بأغنية».
التاريخ: الثلاثاء9-10-2019
رقم العدد : 968