نذير نبعة عين على الروح

 

الملحق الثقافي:د. محمود شاهين:

يتناول كتاب (نذير نبعة: عين على العالم… عين على الروح) لمؤلفه الفنان التشكيلي يوسف عبدلكي، مسيرة الفنان التشكيلي نذير نبعة (دمشق 1938 – 2016) الذي يُشكّل (كما يقول المؤلف) قامة استثنائيّة من قامات الفن التشكيلي المعاصر في سورية. رسام صارم. متقشف. مولع بالبذخ. فنان لم تصنعه موهبته فحسب، بل صنعه معها عمله الدؤوب على مدى خمسين عاماً. نذير نبعة ليس فناناً… إنه درس.

 

يُشير الكتاب إلى أن نبعة كان هاوياً طموحاً في دمشق، وفي القاهرة (التي سافر إليها العام 1958 لدراسة الفن) أصبح فناناً محترفاً، بعد أن أبصر طريقه الذي لم يكن مجرد رؤية خاطفة، بل كان دراسةً وعملاً واحتكاكاً ومعايشةً على مدى أربعة أعوام. في القاهرة عرف كيف يتدرب، وما هي مناهل عمله، وكيف يعمل ولماذا. بعد انتهاء دراسته، عاد نذير نبعة إلى سوريّة، وعمل بعطش حقيقي مكتشفاً نفسه بالعمل، وقدرته على تجديد لغته بالعمل. وفي السنوات الأخيرة من عقد الستينيات، انتقل من صياغة لوحاته بالأزرق والأهرة إلى الاقتصار على لون واحد. وسرعان ما أصبح الأهرة الصحراوي بدرجاته الخفيفة والثقيلة، سيد اللوحة التي تستمر في إطار شخص أو اثنين مؤسلباً ملامح الوجه وأعضاء الجسد، موسعاً حدقات العيون. حدقات تذكر بعيون أطفال الحارة المصريّة المفتوحة على اتساعها، والتي كان يرسمها جورج البهجوري، غير أن نبعة نزع من أشخاصه هؤلاء سماتهم المحليّة وأدخلهم بجفلتهم ودهشتهم وثبات حركاتهم، وسديميّة خلفياتهم في معنى إنساني مطلق.

 


بعد ذلك، تابع نذير نبعة كشوفه وانتقالاته، فأخذ نساءه وأشخاصه أنفسهم ورماهم في فضاء جديد مكوّن من تغضنات عفوية حرة، خشنة، سميكة من عجينه الأساس، يسبحون في فضاء أليف غير معترفين بقانون للجاذبيّة، وضمن جو يحتفي بالخيال، مصاغ من تبصيمات الثياب، وحلميّة المكان، وشرقيّة الملامح، وعربيّة الزخارف، وبألوان دافئة تؤكد شاعريّة المشهد من الأخضر والبني، ألوان قادمة من مفردات الطبيعة العذريّة، ومن الذاكرة اللونيّة للشرق الذي شكلت لوحة الفنان نذير نبعة (في إحدى مراحلها) عمقاً شرقياً آسراً متناغماً، ما وضعها خارج الموجة التي عرفها منتصف وأواخر الستينيات من امتداد التجريد إلى العديد من التجارب الفنيّة الرائدة في الحركة التشكيليّة السوريّة، بتأثير تنظيرات الفنان الإيطالي لارجينا Larjna الذي درّس في كلية الفنون الجميلة في دمشق وقتذاك.
ويشير الكتاب إلى أن انتقال نبعة إلى فرنسا بداية السبعينيات، لمتابعة دراسته العالية في المدرسة الوطنيّة العليا للفنون الجميلة كمعيد موفد لصالح كلية الفنون الجميلة في دمشق، شكّل صدمة بصريّة له، ما جعل من باريس محطة إغناء له، وليس مكوناً أساساً كدمشق والقاهرة. وعندما عاد إلى دمشق منتصف السبعينيات، وبدلاً من أن يشطح في عمله بعد فترته الباريسيّة، عاد إلى الرسم بكل رصانة، وإلى متابعة سلسلة أعماله قبل السفر التي أطلق عليها اسم (الدمشقيّات) والتي تحتل فيها النساء جل المساحة، إضافة إلى سلسلة الإكسسوارات الشرقيّة والمناخات الحلميّة. عمل نذير على هذه السلسلة خمسة عشر عاماً. وفي بداية التسعينيات، أحس أنه استنفد الاستمتاع ببستانه هذا، فانتقل (كما هي عادته) إلى بستان جديد ضارباً عرض الحائط ما ألفه الناس من عمله، على مدى عقد ونصف. انتقل إلى حيز بعيد تماماً، بل ومتطرف، غير آبه بالصدمة التي يمكن أن يحدثها لمتابعي عمله، وهذا بحد ذاته درس من دروس نبعة، فهو من نوع الفنانين الشغوفين بامتلاك كل شيء، وليس ممن يقتصرون على درب واحد، بحيث يمكن القول إن مسيرته الفنيّة تشبه لوحة فسيفساء متنوعة، مثله في هذا مثل (كوبكا Kupke ) و (كليه Klee ) و (بيكاسو Picasso) وجواد سليم وبيكار.
وينتهي الكتاب إلى القول إن نذير نبعة أمضى خمسين عاماً من عمره في معركة مفتوحة مع اللوحة. وهو ككل البشر، لم يصغ حياته مثلما أراد، لكنه تدبرها قدر ما استطاع. عاش في عين الزوبعة، ولم يسمح لها أن تسلبه صفاء الرؤيا. راقب دائماً المحيط، ولكنه فتح عينيه على اتساعهما على روحه، وكل ما فكر فيه وفعله على مدى هذا الزمن الطويل، نراه جلياً على سطح القماش، ذلك أن بطولة الفنان الوحيدة هي لوحته.

 

بطاقة
ولد الفنان نذير نبعة في دمشق في 5 حزيران في حي المزة الدمشقي العريق 1938، نشأ في أسرة بسيطة لأب يعمل فلاحاً وفي مهنٍ عدة، بينما كانت والدته تعمل في تطريز الملابس، المهنة التي ستعلن ملامساته الأولى من خلال مساعدته لأمه؛ حيث كان الطفل الصغير يرسم على الثياب التي تخيطها والدته لنساء وفتيات القرية، لوحته الأولى التي يقول عنها “كنت أرسم طيوراً وزخارف نباتية على تلك الأثواب، وكان منتهى سعادتي عندما تلبس فتاة من قريتي ذلك الثوب فأرى رسومي تطير على صدرها”.
وتعود بداية دخوله عالم اللوحة إلى فترة دراسته في ثانوية التجهيز الأولى في دمشق؛ حيث كان الفنان ناظم الجعفري، أحد رواد الفن التشكيلي في سورية، أستاذاً لمادة التربية الفنية.

 


ونال الشهادة الثانوية فيها العام 1959 حيث كانت موهبته الفنية قد أعلنت عن نفسها بوضوح منذ مشاركته العام 1952 بلوحة مائية في المعرض السنوي، وهو لم يزل في الرابعة عشرة من عمره، فأوفد إلى القاهرة للدراسة في كلية الفنون الجميلة فيها بعد أن نجح في مسابقة للحصول على منحة مقدمة من وزارة التربية، وليتخرج عام 1964 بمشروع عن “عمال مقالع الحجارة”، نال عليه درجة الامتياز.
وفي القاهرة تعرف الفنان الراحل إلى الفنانة التشكيلية المصرية شلبية إبراهيم فتزوجا، وعادت معه إلى دمشق لتقيم فيها إلى جانبه حتى وفاته.
شكل نذير نبعة مع أسعد عرابي وخزيمة علواني وغياث الأخرس وغسان السباعي وعبد الحميد أرناؤوط، علاوة على رسام الأيقونات إلياس الزيات، شوطاً مهماً في مسيرة الفن التشكيلي السوري المعاصر.
إثر عودته من القاهرة عيّن أستاذاً للرسم في دير الزور، حيث تابع شغفه القديم بتأمل المشهد الطبيعي المحيط، فأبدع تصويره في سلسلة من اللوحات التي تفوح بنكهة أسلوبه المميز، بالتزامن مع سلسلة لوحات غيرها مستوحاة من أساطير حضارات المنطقة.
التحق عام 1968 بالجهاز التدريسي في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق ليصبح واحداً من أهم أساتذة الكلية، ومن أكثرهم تأثيراً في الطلاب، وقد استمر في التدريس فترة طويلة، وشمل ذلك أقسام الدراسات العليا، باستثناء الفترة الممتدة ما بين عامي 1971 و1974 حين سافر في بعثة للدراسة في المدرسة الوطنية العليا للفنون بباريس (البوزار)، فساهمت سنوات الدراسة تلك في تطوير خبراته التقنية ومعارفه النظرية وثقافته التشكيلية، وقد ختمها بمشروع تخرج عن النباتات نال به جائزة المدرسة.
وكانت مرحلة “الدمشقيات” التي امتدت منذ عام 1975 وحتى 1991 فـ”التجليات”، تلتها مجموعة “المدن المحروقة” التي بدأت مع مجزرة قانا وتعرض مركز الأمم المتحدة لقصف العدو الصهيوني، واستكملت مع القصف الأميركي لبغداد مدينة الفن، وآخر أعماله كانت مجموعة رسومات بالحبر الصيني عن (داعش) أطلق عليها اسم “المفاتي”، في إشارة إلى الفتاوى التي يتم بموجبها ارتكاب أبشع الجرائم.
لم يكن نبعة ينفي التواصل بين الأجيال الفنية في مبدأ التأثير والتأثر، فكان يعتبر نفسه تلميذاً لدى كل من محمود جلال وناظم الجعفري من سورية، وحسين بيكار وعبد العزيز درويش وعبد الهادي الجزار وحامد ندى من مصر، وغيرهم.
يصفه التشكيلي السوري طلال معلا، بأنه “قدّم صورةً مختلفة وبشكل تعبيري راقٍ عن الحالة الإنسانية في سورية، مجسداً موقفه من التشكيل من جهة ومن القضايا التي تطرحها لوحاته، ولذلك يمكن القول إن نذير نبعة كان من مؤسسي الحداثة في التشكيل السوري”.
لوحاته مقتناة من قبل وزارة الثقافة السورية، والمتحف الوطني بدمشق، والقصر الجمهوري، ومتحف دمّر، وفي مجموعات خاصة وفي بعض المتاحف العالمية.
تم تكريمه في القاهرة والكويت بمعارض احتفالية خاصة، ونال العديد من الجوائز وشهادات التقدير والأوسمة، وفي مقدمتها وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة الذي ناله عام 2005. جائزة معرض غرافن عام 1967، جائزة بينالي الإسكندرية عام 1968، وجائزة المدرسة العليا في باريس.

 التاريخ: الثلاثاء9-10-2019

رقم العدد : 968

آخر الأخبار
سرقة 5 محولات كهربائية تتسبب بقطع التيار عن أحياء في دير الزور "دا . عش" وضرب أمننا.. التوقيت والهدف الشرع يلتقي ميقاتي: سوريا ستكون على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين إعلاميو اللاذقية لـ"الثورة": نطمح لإعلام صادق وحر.. وأن نكون صوت المواطن من السعودية.. توزيع 700 حصة إغاثية في أم المياذن بدرعا "The Intercept": البحث في وثائق انتهاكات سجون نظام الأسد انخفاض أسعار اللحوم الحمراء في القنيطرة "UN News": سوريا.. من الظلام إلى النور كي يلتقط اقتصادنا المحاصر أنفاسه.. هل ترفع العقوبات الغربية قريباً؟ إحباط محاولة داعش تفجير مقام السيدة زينب.. مزيد من اليقظة استمرار إزالة التعديات على الأملاك العامة في دمشق القائد الشرع والسيد الشيباني يستقبلان المبعوث الخاص لسلطان سلطنة عمان مهرجان لبراعم يد شعلة درعا مهلة لتسليم السلاح في قرى اللجاة المكتب القنصلي بدرعا يستأنف تصديق الوثائق  جفاف بحيرات وآلاف الآبار العشوائية في درعا.. وفساد النظام البائد السبب "عمّرها" تزين جسر الحرية بدمشق New York Times: إيران هُزمت في سوريا "الجزيرة": نظام الأسد الفاسد.. استخدم إنتاج الكبتاجون لجمع الأموال Anti war: سوريا بحاجة للقمح والوقود.. والعقوبات عائق