الملحق الثقافي:د. محمود شاهين:
(مسك الغنائم) كتاب من القياس الكبير، أنيق الطباعة والإخراج، يتناول تجارب 13 فناناً تشكيلياً جزائرياً يعملون في المدرسة الجهوية للفنون الجميلة في مدينة (مستغانم) التي كانت ولاتزال حاضرة في كل التظاهرات الثقافيّة الجزائريّة الكبرى. اشتق اسم الكتاب من اسم المدينة التي تقع فيها المدرسة، وقد وضع نصوصه كل من: د. أحمد شعلال، أحمد كريد، والهاشمي عامر، وهو من إصدار وزارة الثقافة الجزائريّة.
يقول د. أحمد شعلال في تقديمه للكتاب تحت عنوان (ذاكرة مدينة ومدينة ذاكرة) أن الأعمال الفنيّة التي يرصدها الكتاب تخلّد بالفن مدينة تعانق الفن بسائر أشكاله وصوره. فهي بهذه المزاوجة بين الروعة الفنيّة في خلابتها الأخّاذة، وتأريخ شاخص، وشاهد على حيويّة متوارثة في مدينة وفاؤها خالد لمن خلدوها. فمستغانم فريدة من فرائد هذا العقد المنظوم في جيد الجزائر الفاتنة. عرفها الرومان باسم (كلتادية) ثم اشتهرت باسم (مستغانم) على اختلاف في تعليل التسمية واشتقاقها. فهناك من يطلق عليها اسم (مشتى الغنائم) و(مسك الغنائم). ومهما يكن فإن الاسم يحمل علامة غنى وخصوبة البلدة، وفيه دليل على ما توفره من حسن جامع، وخير نافع، تنطق بها كلمة (الغنائم) بصيغة الجمع.
و(مستغانم) كما يؤكد شعلال، مدينة تتجاوب مع الفن وتحتضنه بكل طبوعه ومظاهره. مسرحاً على يد العملاق (عبد الرحمن ولد كاكي) الذي انتزع مراتب الصدارة، وجوائز التقدير والاستحقاق وطنياً وعربياً. ويشير أيضاً إلى أعلامها على صعيد الموسيقا والغناء الشعبي. أما على صعيد الفن التشكيلي فيشير إلى حضور محمد خدة فيه وفي الديكور المسرحي وفنون الكتاب، وإلى أن أعماله الفنية مودعة في متحف باريس للفن الحديث، والمتحف الوطني للفنون التشكيليّة، كما ينوه للفنانين عامر الهاشمي وولهاسي محمد.
مدرسة الفنون الجميلة
تضم مستغانم مدرسة للفنون الجميلة أنشأها مجموعة من الفنانين الكبار والجادين أمثال: جفلان عدلان، بن علي السعيد، بن بوطة سيد علي، دبلاجي سعيد حمادي، آمنة، قطاوي سيد أحمد، بلهاشمي نور الدين، شندر السعيد. تعتبر هذه المدرسة تحفة فنيّة ومعماريّة من الطراز العربي الإسلامي الأندلسي. يعود تاريخها إلى القرن الماضي، وتنهض على مساحة تفوق الخمسة آلاف متر مربع، محاطة بحدائق وأشجار النخيل الباسقة.
مسك الغنائم
يتناول كتاب (مسك الغنائم) التجارب الفنيّة التشكيليّة لأبرز فناني مدينة (مستغانم) الذين انضوت أعمالهم في معرض خاص وهم: بلهاشمي نور الدين، علي بن سعيد، بن بوطة سيد علي، شندر سعيد، دبلاجي سعيد، جلول محمد، جفال عدلان، قطاوي سيد أحمد، الهاشمي عامر، حمادي أمينة، ولهلي صي محمد، سليمان شريف، مصطفى عبد الرحمن. تجمع هذه التجارب الفنيّة قواسم مشتركة عديدة يمكن إيجازها بعدد المحاور التي تؤسس البنى الداخلية لكل عمل من الأعمال التي ضمها المعرض.
يقول أحمد كريد إن اللوحة التشكيليّة المحمولة في الجزائر، تبدل فيها الكثير من المفاهيم الجماليّة والقيم الفنية التي كانت سائدة نتيجة للعلاقة القائمة بين الفنان والمجتمع، من جهة، والعالم الخارجي، من جهة أخرى. وعلى أية حال، فإن اللوحة التشكيليّة تبنى على لغة غنية بمفرداتها، وتملك أيضاً وسائل تعبيريّة مختلفة، تمكّن الرسام من تجاوز ذاته والوصول إلى كشف العالم من حوله.
ويؤكد كريد أن الإبداع الفني عموماً، ينطلق من رؤية جماليّة واضحة المعالم، ومن تجارب جديدة، تبتعد أحياناً عن المألوف، وأحياناً أخرى نراها سابحة في فضاءات بعيدة مدركة خلفيات العمل الفني.
تنوع الأساليب والاتجاهات
وفي استعراضه للتجارب الثلاث عشرة التي تناولها الكتاب، يشير أحمد كريد إلى أن الكتابة التجريديّة عند الفنان سليمان الشريف ليست نصوصاً بصريّة خرساء، بل هي مساحات لونيّة متحركة، تنبض بالحياة.
أما الفنان المخضرم ولهاسي فتتراوح أعماله بين الاتجاه التجريدي والنزعة السورياليّة، وهي ذات سمة تعبيريّة تشكيليّة ملتبسة، يطغى عليها الطابع الحدسي الذي جعل منها عالماً من الأحلام.
أما الفنان دبلاجي سعيد فهو مولع بمساقط الأشكال المحسوسة وشبه المجردة، لأن غايته ليست التمثيل والتجسيم، بقدر ما يسعى للإحاطة بجوهر الشيء الذي يطرح من خلاله التجانس الدلالي للرموز المنبعثة من أبجديات الواقعيّة وإرهاصات التجريد وأسرارها الخفيّة. ويحاول الفنان بن بوطة في أعماله الخزفيّة استنطاق التاريخ، والاطلاع على أسرار الفنون الشعبيّة من جديد، وفنه يتميز بالبساطة في مظهره، لكنه عميق المعاني والدلالات الفلسفيّة.
ويرى كريد أن الحديث عن التجربة التشكيليّة النسائيّة حديث يشوبه الإرباك، لأنه مرتبط بحقيقة المجتمع. وفي معرض حديثه عن تجربة الفنانة حمادي يقول إن فنها يحمل نشوة منظمة، وعزف فرشاتها يتراوح بين التراث الإسلامي (المنمنمات) واتجاهات الفن الحديث، خاصة الواقعيّة التعبيريّة الفطريّة. ويبني الفنان بن علي رؤيته الفنيّة على شعور عاطفي جارف وقلق. في نفس السياق تمضي تجربة الفنان بلهاشمي التي تحتل حيزاً لابأس به في التشكيل التجريدي المعاصر في الجزائر. أما الفنان جفال عدلان فقد اهتدى من خلال لغته البصريّة إلى مجموعة من القيم الخطيّة واللونيّة والشكليّة والإيقاعيّة. واتخذ الفنان جلول مداخل متعددة في أعماله كالتشبيهي، والتكعيبي، والتعبيري. أما الفن بالنسبة إلى الفنان قطاوي فهو من أهم الروافد الثقافيّة الإنسانيّة. وتحمل أعمال الفنان الهاشمي عامر مفاهيم فلسفيّة، وقيم فنيّة، ورؤى جماليّة.
المدينة الخضراء
ويشير الهاشم عامر في معرض تقديمه للكتاب، إلى أن مدينة (مستغانم) كانت ولا تزال حاضرة في كل التظاهرات الثقافيّة الكبرى لهذا الوطن الفتي، وها هي الآن المينة الخضراء، تضرب لنا موعداً تشكيلياً إبداعياً مليئاً بالألوان والأضواء والظلال التي تزخر بها هذه المدينة الغراء، وتكتنزها بين طياتها لكل لقاء ثقافي جديد، والتي أعطت ولا زالت، إسهاماً فعالاً، في الحقل الإبداعي الجزائري. ويأتي مشروع (مسك الغنائم) هذا اللقب الذي حازت عليه المدينة، وتُوّجت به، للمشاركة في الأعراس الثقافيّة العربيّة، بهمة نخبة من الفنانين الذين عانقوا المدينة بصدر رحب، وجعلوا منها مشروعاً ثقافياً حضارياً وإبداعياً.
الإبداع الفني الجزائري
بعض التجارب الفنيّة الجزائريّة، ساهمت في تثبيت النظرة الإيجابيّة للفن التشكيلي، سواء لدى الشريحة المثقفة أو العامة في الجزائر، ما دفع مجموعة (مسك الغنائم) للاهتمام بعالم الإبداع، وعوالم التعبيرات المستحدثة، سواء تلك التي ازدهرت وانتشرت في الأقطار العربيّة والإسلاميّة (المنمنمة) أو تلك التي تطوّرت وازدهرت في الثقافات الغربيّة (اللوحة المحمولة). وهذه الحالة من الاهتمام بالفنون المعاصرة، تطول اليوم كافة المدن والبلدات في الجزائر، الأمر الذي أسس لنهوض حركة فنيّة تشكيليّة جزائريّة تمد جسور التواصل بين تراثها العريق، وبين عصرها الطافح بكم هائل من التحوّلات والتغيرات والإضافات الدائمة، التي تطول الثقافة وجوانب الحياة كافة.
على هذا الأساس، تمثل تجارب مجموعة (مسك الغنائم) شريحة مهمة للفن التشكيلي الجزائري المعاصر، بكل أطيافه وألوانه وأجناسه. شريحة تؤكد ببساطة، بأن الفن أصبح ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، إذ يكفي أن نعرف أنه لا يوجد مجتمع واحد استطاع أن يستغني عن الفن، وأن يكتفي بالضرورات الماديّة فقط للاستمرار في الحياة، ذلك لأن الإنسان كيان مادي وروحي، وهذا ما يميزه عن باقي المخلوقات.
التاريخ: الثلاثاء22-10-2019
رقم العدد : 970