نظرية الأخلاق طبيعتنا الحقيقية ككائنات عقلانية

الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن :

الأخلاق الرواقية وتطبيقاتها في حياتنا اليومية هي موضوع كتاب (كيف تكون رواقياً الصادر عام 2017) للكاتب ماسيمو بغلوسي. بدأت الرواقية كمدرسة إبداعية في الكلاسيكية اليونانية والفلسفة الرومانية، لتعرض تعاملاً غير تقليدي للأفكار الرائجة في ذلك الزمن، والتي لازال العديد منها سائداً حتى اليوم. إحدى الأفكار الأساسية في نظرية الأخلاق الرواقية هي إجراء تمييز واضح بين الأشياء الخاضعة لنا وتحت سيطرتنا، والأشياء التي خارجة عن إرادتنا. في عالم معقد وشديد الاضطراب وحيث يُنفق معظم الوقت حول مسائل لا نستطيع عمل الكثير تجاهها، جاءت الفكرة الرواقية بأننا يجب أن نهتم فقط بالأشياء التي نمتلك السلطة لتغييرها لتقدّم علاجاً ممكناً للقلق المزمن لحياتنا المعاصرة.
ربما أهم مبدأ في الأخلاق الرواقية، هو الادّعاء بأن القيمة الحقيقية لنا هي فقط بنوعية شخصيتنا وتعبيراتها من خلال أفعالنا. هذا جرى التعبير عنه في القول بأن «الفضيلة هي الخير الوحيد». لكي يصبح المرء رواقياً، عليه أن يتقدم بالسير في مسار الفضيلة، هذا المرء ربما اقتنع بهذه الحكمة الرواقية الهامة، لكنه لايزال بحاجة لاكتساب السيادة على نفسه من خلال تغيير أفكاره ورغباته والتحفز بالفضيلة.
هذا المبدأ الأساسي، كانت له انعكاسات خطيرة في أن كل شيء بعيد عن الفضيلة هو غير جيد. هذا يتضمن ليس فقط الثروة والمتعة، وإنما أيضاً الصحة والنجاح المهني والعلاقات الشخصية بما فيها الأطفال والعائلة. في اللغة الرواقية، كل هذه الأشياء هي «خارجية» وليست أبداً مصدراً للقيمة الحقيقية.
العقيدة الرواقية لا تبدو صعبة الفهم أو مخالفة للبديهة، طالما العديد من الأشياء التي نقيّمها في العادة تقع تحت صنف رواقي آخر من «اللااختلافات المفضلة»(1). هذا يعني أننا نستطيع وبضمير جيد استثمار الوقت والطاقة في متابعتها – طالما هذا لا يؤثر في تقدّمنا في تطوير الفضيلة.

كما يقترح عنوان الكتاب، التركيز على كيفية أن تكون رواقياً، هو عمل تطبيقي: إنه يسعى ليأخذ القارئ في رحلة تقود في النهاية إلى تحسين حياته، جزئياً، من خلال إحداث ثورة في تصوره لما يمكن أن تكون عليه هذه التحسينات. غير أن المؤلف يؤكد بوضوح أن هذا «الكتاب لا يعد بسلاح أسطوري». ورغم أن النص هو دائماً سهل الفهم، إلا أنه يكافح بصرامة لأجل الدقة الفلسفية والتاريخية.
الكاتب وهو بروفيسور بالفلسفة وكاتب عمود في (الفلسفة الآن) هو أيضاً لديه دكتوراه بالبيولوجي. معرفته الميدانية الواسعة تؤهله لنقد أو تحديث سيكولوجيا الرواقية حيثما أمكن. هو يعرض الرواقية بشمولية ونهاية مفتوحة، ويسلط الضوء على خصائص هذه الطريقة من التفكير التي تبدو واعدة له، بينما يترك الخصائص الأخرى الأقل إقناعاً. في الوقت نفسه، تكشف الفصول الأولى من الكتاب عن التواضع. الكاتب يخبرنا أنه هو ذاته مبتدئ فقط في هذا المسار الروحاني، لازال نوعاً ما يشكك بالعقائد التي يحتضنها ببطء، ولازال يعتمد على أساتذة الرواقية القدماء أمثال Seneca(4BC-65AD) و Marcus Aurelius( AD121-180) و أبيكتاتوس (55- AD (135لتعمل كمرشد له.
إحدى نقاط القوة في الكتاب، هي استعمال الكاتب للمعرفة المفصلة بالسير الذاتية، ليجعل هذه الشخصيات أكثر متعة وواقعية من خلال أسلوب أدبي في الإبقاء على الارتباط مع تقاليد كبار المفكرين، كما لو أنهم أصدقاؤه المقربون (خاصة أبيكتاتوس). وفي نفس الوقت، يظل الكتاب ذا طابع شخصي جداً، وإن العديد من التحديات التي واجهها المؤلف في حياته الخاصة، ومن ضمنها موت كل من أمه وأبيه بالسرطان، سعى من خلالها إلى إشراك القارئ بها علناً قبل وضعها ضمن سياق معين من تطبيق الأفكار الرواقية.
هو يلتمس من القارئ العذر كما في عبارة «اعفُ عني لو جعلت هذا، مرة أخرى، شخصياً»(ص 209)، هذه اللمسات تضيف عمقاً وواقعية والتي يصعب تحقيقها بطريقة أخرى. النص أيضاً لا يخشى من الانخراط غير الجاد في السياسة، مثل النازية، الإرهاب، حرب فيتنام، أو تطبيق أفكار رواقية على موضوعات هامة، لكنها مثيرة للجدل، مثل الاعاقة والانتحار. هذا الانتباه للقضايا الواقعية التي يواجهها الناس يومياً، يختلف كثيراً عن التركيز المجرد وغير الحماسي لمعظم النقاشات الفلسفية الأكاديمية اليوم.
النظرية والتطبيق
رغم السمعة العالية للمؤلف، لكن الفلاسفة المتدربين قد يجدون في النص بعض النواقص.
إحدى المسائل التي يناقشها الكاتب هي الفكرة الرواقية المركزية بأننا «نعيش طبقاً للطبيعة»- يشير فيها إلى «طبيعتنا الحقيقية» ككائنات عقلانية. هنا تصبح الرواقية في خطر ارتكاب ما يسمى «مغالطة اللجوء إلى الطبيعة»: الاستنتاج الخاطئ من شيء ما كونه طبيعياً إلى كونه جيداً. ولكن بدلاً من مناقشة هذه المشكلة بالتفصيل، يغيّر المؤلف الموضوع بسرعة، ويتجه فوراً إلى مقطع للفيلسوف الشهير هيوم من رسالته حول استحالة استنتاج علاقات بين الافتراضات الوصفية والتقييمية – فكرة أنك لا تستطيع الحصول على قيم من الحقائق حول العالم، ثم اختبار مختلف الخيارات المتوفرة ضمن إبستمولوجيا الأخلاق المعاصرة. لكن هذه الموضوعات لا ترتبط بقوة بالمغالطة المفترضة.
هذا يتصل بقضية أعمق تتعلق فيما إذا كان هناك أي شيء مفقود بعد انفصال الأخلاق الرواقية عن المظاهر الاوسع للرؤية الرواقية. «اللجوء إلى الطبيعة» لم يُعترف به كمغالطة في كل نظام فلسفي. هذا يعتمد على التصور المؤطر للطبيعة. الرواقي يؤمن برؤية غريبة جداً عن الرؤية العلمية المفرطة السائدة اليوم، يلزم نفسه للإيمان بالرعاية الكونية المتجسدة بالعقل، أو بالنظام الطبيعي للأشياء الموجهة عقلانياً.
المؤلف رغم تقليله من أهمية حركة الإلحاد الجديد، هو واضح في أن تفسيره للرواقية علماني تماماً. غير أن بعض الباحثين البارزين الكلاسيك – خاصة .A.A Long جادلوا بأن أي محاولة لإزالة الدعامات الثلاث للرواقية – الأخلاق، الكون، اللوغوس – سوف يضر سلباً بآراء رواد المدرسة الأوائل. إن النجاح في انتعاش الرواقية الحديث ربما أظهر إمكانية وضع الممارسات الأخلاقية للرواقية للاستعمال مع الاحتفاظ بالإيمان الكوسمولوجي الحديث. لكن عملية الانتقاء هذه للرواقية، تبدو في بعض الأوقات غير منسجمة مع السلطة التي مُنحت للرواقية التاريخية في النص، وأنه من دون المعادلة الرواقية العقل = الطبيعة = الله، فإن تبرير بعض مبادئها الأخلاقية يصبح غامضاً.
التركيز على هذه النواقص أو الفجوات، ربما يترك الكتاب بعيداً عما يجب أن يوفره المؤلف. الكاتب يهتم كثيراً بالنتائج التطبيقية بدلاً من مناقشة النظرية الأخلاقية. في مكان آخر هو يقترح رؤية أن السؤال عن مدى صحة مبادئ التفسير الفلسفي لكيفية العيش هو ارتكاب مغالطة منطقية. الكاتب يزود القرّاء بعدد من التمارين كنقطة انطلاق قوية لتعليمهم الروحي للممارسات الرواقية، لكنه يبدو ينظر إلى نجاحهم كشعار شخصي جداً. ربما مطلوب مختلف أشكال الوعي لمختلف أنواع الناس ، اعتماداً على اختلافاتنا الفردية وخصائصنا المتميزة، لكن الخيار المعقول لي هو أن أحتفظ فقط بتلك المظاهر من الممارسات الرواقية التي تعمل خصيصاً لي.
الكاتب يعرض نصيحة فعالة جداً أكثر عملية من النقاشات التقنية للكتب الأكاديمية. كتاب كيف تكون رواقياً يمكن أن يكون مدخلاً هاماً ليس فقط للأفكار الرواقية، وإنما أيضاً للأخلاق القديمة ككل.
كتاب (كيف تكون رواقياً: استخدام الفلسفة القديمة لنعيش في الحياة الحديثة) للكاتب Massimo Pigliucci، صدر عن دار باسك بوكس عام 2017 في 288 صفحة…………..
الهوامش
(1) يميز الرواقيون بين الأشياء الجيدة good والأشياء السيئة bad والأشياء التي لا جيدة ولا سيئة (indifferent). الأشياء الجيدة تتضمن الفضيلة، الحكمة، الشجاعة، الانضباط الذاتي. أما الأشياء السيئة تشمل المضاد لما هو جيد مثل الشر، اللاعدالة، الجبن، الإسراف أو الترف. أما الصنف الثالث من الأشياء، هي الأشياء التي لا جيدة ولا سيئة، فتضم الحياة والموت والشهرة والسمعة السيئة والمتعة والألم والثروة والفقر والصحة والمرض والجمال والقبح. إن هذا الصنف الأخير من الأخلاق الرواقية هو السائد بين الناس اليوم ويحكمون عليه بالجيد أو السيئ. لكن الرواقية ترى هذه الأشياء لا تساعد ولا تعيق تطور الكائن البشري. إنها لا تلعب أي دور أساسي في الحياة الجيدة. باختصار، أشياء مثل الصحة والثروة والسمعة، ليس لها أي تأثير على الحياة الجيدة. إنها لا تهم أبداً. ليست جيدة ولا سيئة. سواء كنا أغنياء أو فقراء أو بصحة جيدة أو مرضى، ذلك لا يهم بالنسبة إلى السعادة النهائية. ولهذا يجب ألا نجعل تلك الأشياء هدفاً لنا، وأن نتعلم القناعة مهما كان نصيبنا في الطبيعة.

 

التاريخ: الثلاثاء5-11-2019

رقم العدد : 972

آخر الأخبار
الرئيس الأسد يصدر قانون إحداث وزارة “التربية والتعليم” تحل بدلاً من الوزارة المحدثة عام 1944 هل ثمة وجه لاستنجاد نتنياهو بـ "دريفوس"؟ القوات الروسية تدمر معقلاً أوكرانياً في دونيتسك وتسقط 39 مسيرة الاستخبارات الروسية: الأنغلوسكسونيون يدفعون كييف للإرهاب النووي ناريشكين: قاعدة التنف تحولت إلى مصنع لإنتاج المسلحين الخاضعين للغرب الصين رداً على تهديدات ترامب: لا يوجد رابح في الحروب التجارية "ذا انترسبت": يجب محاكمة الولايات المتحدة على جرائمها أفضل عرض سريري بمؤتمر الجمعية الأمريكية للقدم السكرية في لوس أنجلوس لمستشفى دمشق الوزير المنجد: قانون التجارة الداخلية نقطة الانطلاق لتعديل بقية القوانين 7455 طناً الأقطان المستلمة  في محلجي العاصي ومحردة هطولات مطرية متفرقة في أغلب المحافظات إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم السوداني يعلن النتائج الأولية للتعداد العام للسكان في العراق المتحدث باسم الجنائية الدولية: ضرورة تعاون الدول الأعضاء بشأن اعتقال نتنياهو وغالانت 16 قتيلاً جراء الفيضانات والانهيارات الأرضية في سومطرة الأندونيسية الدفاعات الجوية الروسية تسقط 23 مسيرة أوكرانية خسائر كبيرة لكييف في خاركوف الأرصاد الجوية الصينية تصدر إنذاراً لمواجهة العواصف الثلجية النيجر تطلب رسمياً من الاتحاد الأوروبي تغيير سفيره لديها