لن تجد وسيلة للقاء البشر انسانيا وفكريا وثقافيا وأخلاقيا أكثر من اجتماعهم في مسرح يتسع لهم جميعا، يصغون.. يتنفسون دون ضجيج.. يرتقون دون أنانية.. يهتفون بصمت: تحيا الموسيقا.. لن تكون هناك حاجة لسؤال أي شخص لماذا تحضر حفلا موسيقيا فحضوره الى هذا الحفل يعني أنه يشعر بالسعادة عندما يستمع للموسيقا,والسعادة هي كل مايسعى اليه الانسان في سني حياته,لايريد غير السعادة، لكن تحقيقه لهذه الغاية يتغير بتغير الوسيلة.
ما الذي يبقي آلاف المشاهدين صامتين حتى انتهاء صوت الموسيقا ينتظرون بلهفة,يشبعون أرواحهم.. هكذا وبأقل من ساعة يتشابه البشر وتنعدم الحواجز والعنصريات والفوارق الطبقية وتتوحد ألوان البشر في لون واحد يدعو للاحساس بمتعة الحياة عبر صوت البيانو مترافقا مع الكمان والايقاع والقيثارة وكل وتر وكل علامة موسيقية تنطق بالجمال وبالحب، تلغى الديانات وتنسحب مآسي الحروب وينسى البشر في تلك الساعة أحزانهم ويتواصلون مع الحلم وينسجون خيطا رفيعا مع الكون الصافي الذي كان قبل الانفجار الكبير.
في لحظة يتغير لون العيون وتضيء بنور شفاف نابع من قلوب نسيت طعم الحقد والكره والأنانية لتتماهى في أفق عذب ينبعث من موسيقا وليسوا بحاجة لأي نظريات فلسفية تشير اليهم بطريقة للتواصل مع شعوب العالم قاطبة.
في احدى حفلات الموسيقار اليوناني /ياني/ في الهند تحدث قبل الحفل ببضع كلمات حب الى قصر تاج محل الايقونة التي باتت رمزا لجمع كل مكونات العالم في قصر من المرمر الأبيض الذي جمعت أحجاره الكريمة من مختلف بقاع العالم وعمل فيه اثنان وعشرون عاملا ومهندسا, عزف الموسيقار ياني وفرقته أمام الجمهور الكثيف في الهند ونسي سكان الهند حينها حروبا أهلية ونزاعات دموية، وجلسوا ينصتون لصوت الانسان وليس لصوت الوحش، لصوت الحب وليس لصوت الكره.
الصوت القادم من السماء حضر عشرات المرات الى مسرح بصرى والى مسرح معرض دمشق الدولي، ولم يتسع أي منهما الى الحضور القادم من كافة أنحاء سورية لسماع الصوت الرخيم لفيروز.
فاتركوا لنا اللحظة لنستعيد التوازن ونستعيد الصفاء الداخلي, اتركوا لنا اللحظة لنشعر أن ما مضى من عمرنا خلال ثماني السنوات كان كابوسا وانتهى الأمر، اتركوا لنا اللحظة لنشعر أن للحياة طعماً شهياً، وطعمأ أنيقاً، ولوناً كلون الضياء،
الموسيقا اختارت أن تكون من أقوى وسائل التواصل بين البشر ومن أكثر الثقافات التي تجمع البشر مهما تعددت وسائل التواصل الحديثة واخترعت التكنولوجيا ما هو فائق الذكاء لكن ثقافة التواصل تعني كثيرا من احساس الناس ببعضها وتعني وقوفهم الى جانب بعضهم،تعني الوفاء والاحساس الصادق والأمنيات الطيبة.
قد تبدو هذه الثقافة بسيطة أو لنقل ثقافة غبية في وجه العالم المسحوق بالمادة لكن ادراك القيم الأولى ستبقى النسيج الأقوى الذي يجعل البشر يتصفون بالإنسانية وفي هذا الباب نستحضر حوارا دار بين أنديرا غاندي ووالدها جواهر لال نهرو يثبت أن الثقافة تشبه الحبل السري المربوط بالرحم فان كان غذاء المجتمع قائماً على ثقافة القيم التي تنتج بشرا يعملون ليحققوا لبلدهم الرقي سيقرؤون ويطلعون على الحضارات وثرائها الفكري وسوف يستمعون للموسيقا بعد انهاك، وسوف يبنون ثقافة أخرى تختلف كثيرا عما نعيش به اليوم:
سألت انديرا غاندي والدها: ماذا يحدث في بلد انتشر فيه الفساد؟.. فأجابها والدها: ينهار الاقتصاد.. فقالت له: اذا انهار الاقتصاد بالتأكيد ستنهار الاخلاق.. فأجابها والدها: وما الذي يبقيك في بلد انهارت اخلاقه..
قد وصلنا الى ما تحدثت به غاندي لكن الناس عندنا لاتغادر بيوتها وأوطانها (حتى لو لم يستطيعوا التواصل مع الآخرين الذين لا يجدون في خوض المياه السوداء عسرا) لأنهم يلجؤون للحظات جميلة تبقيهم على تواصل مع الحياة حتى لو كان عبر حفلة موسيقية يحضرونها في صالون صغير أو عبر تلفاز فهي قادرة على اعادة تواصلهم مع أشياء كثيرة في داخلهم توشك على الرحيل.
أيدا المولي
التاريخ: الثلاثاء 12-11-2019
الرقم: 17120