الملحق الثقافي:سامر منصور:
في عالم البشر لا يتجسد التقدم من خلال امتلاك أدوات المواجهة والسيطرة، وإنما من خلال تجاوز الأخطاء نحو وعيًّ أعلى.. مما لا شك فيه أن العلم وفر للإنسان مئات الطرق لقتل أخيه الإنسان، حرقاً وصعقاً وثقباً وخنقاً (الغازات الكيميائية).. إلخ. لكنه حتى الآن لم يوفر طريقة واحدة لإحياء إنسانٍ تم اغتيالهُ!!
يتحدث فيلم (self less) من إخراج (تارسيم سينغ) عن إمكانية إبعاد الموت والدنو من الخلود، عبر منح العقل فرصة للاستمرار بعد فناء الجسد.. حيث يتم استبدال الجسد وبالتالي إمكانية منح فرصة لأفرادٍ مبدعين مثل آينشتاين ونيكولا تسلا وبيتهوفن.. إلى آخره للاستمرار بعقولهم الخلاقة عبر عدة أجساد يتم تبديلها بمجرد أن تبلى. حيث تعرض شركة طبية سرية على أحد كبار رجال الأعمال في الولايات المتحدة الأمريكية واسمه (داميان هيل) وقد أدى الدور الممثل القدير (بن كينغسلي) فرصة استبدال جسده الذي يفنيه مرض السرطان بجسد جديد ينضح بالصحة والشباب وذلك من خلال نقل ذاكرته وكافة ما في دماغهِ إلى الجسد الشاب، شريطة أن يتم دفن جسده القديم علناً، وشريطة أن يتخذ اسماً ولقباً جديدين، ولا يتواصل مع أيٍّ ممن كان يعرفهم، كون الشركة لم تجر ِ هذه العملية سوى لقلة قليلة جداً من الناس، وبالتالي هي ترغب بدراسة كافة من خضعوا لعملية النقل، وتوهمهم بأنهم أحرار إلى حد كبير في التنقل والتواصل الاجتماعي، بينما تخضعهم لرقابة مُركزة.
دفع (داميان) مبلغ 250 مليون دولار مقابل الجسد الجديد والذي قيل له إنه قد تم تصنيعه في أنابيب في المختبر، ليكتشف لاحقاً أنه بات في جسد جندي في الجيش الأمريكي هو أبٌ لطفلةٍ مريضة تبرَّعَ مُضحياً بنفسهِ للشركة السرية في سبيل تأمين تكاليف علاج ابنته الباهظة.. وأن الحبوب التي أوصاه مدير الشركة، وقد أدى الدور الممثل (ماثيو جوود)، بتناولها باستمرار هي لتثبته كشخصية ذات ذاكرة ومعارف وإرادة داخل الجسد الجديد، وفي ذات الوقت تعمل تلك الحبوب على محو ذاكرة وشخصية ذلك الجندي والذي يُدعى (مارك) وقد جسد الدور الممثل (رايان رينولدز).. ويبدأ الصراع النفسي عندما ينسى (داميان) تناول الحبوب، فتبدأ ذكريات غريبة تداهمهُ حول طفلة مريضة وأمها.
وإن تساءلنا ما الذي جعل فيلم (self less) فيلماً ناجحاً؟ فلا بدَّ من التطرق لعدة نقاط..
– المسألة الإنسانية التي لا يمكن أن ننفي احتمالية حدوثها، ألا وهي استشراف الفيلم الذي عرض إمكانية خلود العقل وبالتالي خلود الشخصية الإنسانية، وهذا أثار العصف الذهني من خلال استمرار المُشاهد في طرح الأسئلة على امتداد الفيلم. ومن شروط العصف الذهني طويل الأمد أن تكون فكرة الفيلم مُركبة ويتم عرضها بشكل مدروس، لغاية تحقيق درجة عالية من تشبع ذهن المتلقي بها.. وتفعيل العديد من آليات العمل العقلية من استقراء وتحليل وتركيب وقياس واسترجاع.. إلى آخره. وهذا هو ما تُؤسس عليه اللذة العقلية من تأمل وتفكر.. وقد نجح الفيلم في استيفاء كل ذلك.
والسؤال هنا: هل يجب على العقل البشري أن يتوقف عن البحث عن حلول لمعضلة الفناء والتي تستفزه كثيراً بدليل كم القصائد والأساطير والأفلام والكتب واللوحات والصروح كالأهرامات.. إلى آخره، التي أنتجها، واتخذت من الموت والحياة بعد الموت موضوعاً لها؟
هل المشكلة هي في الموت نفسه؟ أم في الخوف من الموت؟
وإن كان من حق العقل أن ينزع إلى الخلود ويتوسلهُ يوماً بعد يوم، هل يمكن للأرض والعِلم أن يؤمنا موارد تكفي لذرية رجال يتكاثرون بلا نهاية وهي ستضيق بمواردها عن ذرية المليارات القليلة الموجودة حالياً مع نهاية الألفية الثالثة؟!
– بنية الشخصية المحورية ليست (ثابت) وإنما (متحول)..
إن التعاطف الإنساني الذي غير المسار السلوكي للشخصية المحورية (داميان)، يتمثل في القواسم المشتركة بين الشخصيتين (داميان) و(مارك)، والتي جعلت (داميان) يتعاطف مع (مارك) إلى أبعد الحدود.. فـ (داميان) أب مُهمل وتاجر ناجح وإنسان بارد القلب وذو سطوة يتعاطف مع غريب ينازعهُ حقهُ في الحياة، ذلك الحق الذي اكتسبه في صفقة مُكلفة وكان يحسبها من أفضل الصفقات التي أجراها في حياتهِ، بالإضافة إلى أن غريزة البقاء تحتل قمة هرم الدوافع الموجهة لسلوك جلِّ الكائنات الحية.
إن (مارك) هو أب ناجح وإنسان شجاع وكادح ومثال للتضحية.. بينما (داميان) كان ومنذ المشاهد الأولى للفيلم قد وصل إلى طريق مسدود مع ابنته التي تجاوزت الثلاثين من العمر.. وهو يمتلك حس المسؤولية تجاه صفقاته التجارية، وأدرك في نهاية حياته أنه كان يجب أن يمتلك حس المسؤولية تجاه ابنته الوحيدة، وعندما أصبح داخل الجسد الجديد بقي هذا الشعور مهيمناً عليه.
وفي ختام الفيلم قرر (داميان) التوقف عن أخذ الحبوب، أي الزوال من دماغ (مارك) وبالتالي إتاحة الفرصة له للعودة إلى حياته الطبيعية مع ابنته وزوجته..
وبالعودة إلى عنوان الفيلم، فإن (self less) تعني حرفياً (اضمحلال الذات) بينما تعني وفق التداول والاصطلاح (غير أناني).
أما ما كان في جوف حصان طروادة فهو أن أمثال (داميان) من الأثرياء يحرمون بشكلٍ أو بآخر أمثال (مارك) من الحياة الهانئة، فلو لم يكن (داميان) يعيش في قصر ٍ كل ما فيه من الذهب والرخام (كما أظهرت العديد من اللقطات من مشاهد الفيلم) ويحتكر كلذلك المال – والمال قوة مجمدة في خزائن الأثرياء – لما كان (مارك) عاجزاً عن إيجاد سبيل لتحمل تكاليف علاج طفلته المصابة بمرض مزمن.. ولعل هذا الفيلم يفضح لاإنسانية النظام الرأسمالي الربوي الاحتكاري.
وخلاصة القول.. العِلمُ قنبلةٌ موقوتة مادمنا لم نحقق بعد تنمية إنسانية شاملة.. فالطاقة النووية الهائلة على سبيل المثال يمكن استخدامها للأغراض السلمية وللأغراض التدميرية.. لكن خيار البشر كان في بداية اكتشافها، الإنفاق الهائل استثمار في الجانب السلبي منها..
وهناك أفلام خيال علمي ظهرت مؤخراً كفيلم (Ant Man) تتمحور المهمة الرئيسية لبطل الفيلم في حجب منجز علمي متطور عن البشرية وإبقائه في الأدراج طي الكتمان.. فلا يمكن لذات عالمة وخلوقة في آنٍ معاً أن تمنح هذا الكيان المتوحش والمدعو بالكيان البشري مُنجزاً تقانيّاً قد يُحيلهُ إلى سلاح ٍ متطور.. فالإنسان عاش قرابة المليون سنة على سطح الأرض من دون تكنولوجيا وعلوم فائقة، ولكنه قد لا يعيش أكثر من بضعة عقود بعد الحرب العالمية الثالثة التي قد تفسد الأرض برمتها!!
التاريخ: الثلاثاء19-11-2019
رقم العدد : 974