يقول «هيمنجواي» أنا لا أعرف إلا ما رأيته، وإن الحقيقي مصنوع من المعرفة والتجربة والخمر والخبز والزيت والملح والله والسرير والصباح الباكر والليالي والأيام والبحر والنساء والرجال والكلاب والمنعطفات والعربات والدراجات والنجاد والوديان، وظهور القاطرات واختفاؤها في المنعطفات ومن ذكر القطا وهو يصفق بجناحيه، ورائحة العشب والجلد.
بينما لو عاش الكاتب في برجه العاجي فكيف يؤثر ويتأثر؟ ومن أين سيأتي بالأفكار؟ وعن أي شيء سيكتب؟ وكيف سيعرف ردة فعل الجماهير عما يكتب؟ أليس من الاختلاط ترفرف الفكرة بجناحيها أمام ناظريك؟ ألا يثيرك مشهد الناس في المسجد، أو المرضى في المشفى، والطلبة في الجامعات، والتلاميذ في المدرسة، والموظفين في العمل، والعساكر في ثكناتهم؟.. عندما نتحدث عن الكتابة والكاتب.
بالرُّغم من الفارق بين ما كانت عليه الأمور قديماً وما هي عليه اليوم، نرى أن الكتابة بقيت حافظة المعرفة ومستودع تراكمها عبر الأجيال، لذا بقيت العامل الأول في دفع المسيرة الحضارية.. من هنا تثمين دور الكاتب التنويري عبر التاريخ، إن كان في مجتمعه أو في إثراء المشهد الثقافي وتشييد الصرح المعرفي عبر العالم.
كتابة الكتب كانت من أصعب الأعمال قبل عصر الطباعة، لذا اليوم نحن نثمن المخطوطات تثميناً خاصاً لما استدعى تخطيطها من جهد وجلد – نثمنها بصرف النظر عما جاء فيها من محتوى سمين أو غث.
الكاتب كان ولايزال: قصاصاً وروائياً وشاعراً وناقداً ومؤرخاً ومفكراً وعالماً متخصصاً في علم طبيعي أو إنساني, هو اليوم أيضا إعلامي يكتب يومياً أو دورياً عن أحداث جارية في مختلف حقول الحراك الإنساني, هو اليوم أيضا شارح للناتج العلمي المتبلور من خلال مواصلة الدراسة والبحث من قبل المتصدرين الحركة العلمية عبر العالم, هو في عصرنا أيضا مدون إلكتروني, وهو في كل ذلك قد يكون كاتباً محترفاً متفرغاً للكتابة، أو مؤلفا في مجال تخصصه، أو ممارساً للكتابة كنشاط جانبي في حقل مأثور لديه، أو في مختلف الحقول, أياً كان مجاله ونمطه، لطالما تميز دور الكاتب بالريادة، ومهمته لطالما اتسمت بالتنوير.
مَن من الكتَّاب اليوم يعي دوره ويثمن مهمته على هذا النحو، لا يعفي نفسه من أن يكون مجيداً فن الكتابة، دقيقاً في النقل، منهجياً في العرض، بارعاً في الشرح، وفي جميع الحالات مراعياً مطلبي صدقية النقل وسلامة ممارسة حرية التعبير. وإلى جانب الصقل المهني في الإخبار والشرح، تتطلب الكتابة قدرة على التحليل والتقييم لكي يمارس دوره في مجتمعه، رياديا وتنويريا، وعلى نحو مفيد وناجع، لا ينبغي للكاتب أن يكتفي بمجرد نقل حدث أو وصف حال سائد أو إيراد نص خطاب أو ترديد تصريح رسمي.
هو مطالب أن يتناول أيضا ما قد يترتب على الحدث أو على استمرار الحال السائد أو على الخطاب الرسمي من آثار إيجابية أو سلبية حسب ما يستنبط ويقدر, هو مطالب بالتفنيد والتمحيص، وجلب ما يدعم زعمه ويرجح رأيه بموضوعية وعرض رصين, بذلك يمارس الكاتب دوراً فاعلاً في تبصير اجتهادات مجتمعه، أكان على صعيد تكون الرأي العام أو تشكل التوجهات الرسمية حول أي موضوع مهم, كل ذلك بغية الوصول للأوفى والأمثل من المعالجات والحلول بمعيار خدمة الصالح الوطني في المؤدى الأخير، بذلك يغدو الكاتب ممارساً لدور ريادي وتنويري في مجتمعه، ويغدو حقا أهلا لكل تقدير.
الريادة أداء متميز من موقع اعتيادي، وكونها كذلك، فهي متاحة لأي أحد منا من موقع عمله وحسب قابليته, إلا أنها متاحة للكاتب بشكل أخص, هي متاحة له ليس في النقل والشرح والتقييم للأمور السائدة أو الجارية فحسب، بل أيضا في المجال الفكري المعني ببحث المفاهيم وتطوير الرؤى في اتجاه الأجدر والأوفق من الترجمات العملية في الواقع المعيش, بذلك ترتدف الريادة بمهمة التنوير – أي التبصير بالأوفى والأمثل وطنيا وإنسانيا باطراد, لا شيء يتغير، ما لم يتغير فهمنا له وتفكيرنا اتجاهه, ولكي يأتي التغيير في اتجاه الأصلح لا بدّ من أن تشرح مبرراته معرفيا وتسند مقاصده أخلاقيا في جميع الحالات حتى يقتنع الناس بسلامة وصواب ما يُعرض, ولأن دور الكاتب ريادي وتنويري معاً، لزم أن يحرص دأباً على أمانة النقل وصدقية الإخبار وموضوعية الرأي ورصانة العرض في كل ما يكتب, فللكلمة مسؤولية يجب أن تراعى في جميع الأحوال، سواء أأطلقت الكلمة خطابا، أو سطرت مقالا، أو نظمت شعرا، أو حتى همست همسا من وراء الجدران.
إن للكاتب في مجتمعه إزاء هذا الحراك العالمي دوراً ريادياً، فهو الناقل والشارح والمقيّم والناصح، ومن بعد ذلك هو يثري الثقافة الوطنية بعطاء أدبي، فكري، ومعرفي, مقابل ذلك، على المجتمع رعاية الكاتب وتشجيعه وتمكينه من أداء مهمته بحرية وطمأنينة, نحن مجتمع متطور في وعيه، ولا يعقل أن يتطور الوعي في أي مجتمع وطني دون أن تتطور معه المدارك والمفاهيم، أو أن تتطور المدارك والمفاهيم ولا يتطور بتطورها الواقع المعيش، أو أن يتطور الواقع المعيش ولا يستولد ذلك تطلعات نحو الأوفى والأمثل من إيجابيات الحياة, الحرية – حرية الفكر والتعبير لغرض مشروع – هي أولى تلك الإيجابيات, وهي أقواها لاستظهار النبوغ، وأصلبها ضمانا لعيش آمن كريم, للكاتب تحديدا الحرية إكسير الإبداع.
ليندا ابراهيم
التاريخ: الجمعة 27-12-2019
الرقم: 17156