«لاعزلة في العالم.. الحضارات والثقافات مظاهر أو معالم متنوعة لعقلٍ واحد، ولحقيقة إنسانية واحدة.. الوحدة تتألق في ضياء الكثرة، والكثرة تزهو في ألوان الوحدة.. الأصل يمتد إلى الفروع من أجل تجلي الشكل المنطوي في الصورة الأصلية، والفروع تعبّر عن الأصل المختبئ في حقيقة الوجود».
هي حقائقٌ، ما أكثر ما تناولها الباحث والمفكر «ندرة اليازجي» الذي كان أول ما سعى إليه وقبل غوصه العميق في الثقافات، البحث في أعماقه لمعرفة حقيقة فكره وأصالة رأيه.. البحث الذي مكّنه من معرفة كيانه الذي استنتج بأن ما يلتقي فيه عبرَ حكمة التأملات: «في كياني، تلتقي ثقافات العالم لتشكِّل مركزاً تتكامل فيه الوقائع الظاهرية العديدة المتضمنة في هذه الثقافات، والحقيقة الواحدة التي نشاهدها كلّما توغلنا في أعماقِ الحكمة أو السرية، حيث تتوطّد القاعدة الأساسية للوجود الإنساني.
في كياني، تتحد فروع المعرفة كلّها، وتتصل دون ان تنفصل، ويشير هذا الاتصال إلى توحيد الثقافات بأنواع المعرفة العالمية، في تآلفٍ يبلغ ذروته في الوعي الكوني»..
إنه ما استنتجه بعد أن أحيا في داخلة جميع الثقافات، مضيفاً إليها فيض ما لديه من ثقافة عربية.. أحياها، بتسلُّلهِ إلى محرابِ ومدارسِ ومثالية وآداب وأخلاق، الحكمة اليونانية والصينية والهندوسية واليونانية..
أحيا كل هذه الثقافات، سعياً منه للوصول إلى الحقيقة الكامنة في تعاليمها بعد الكشف عن جوهرها وصولاً إلى الحقيقة الكونية. تلك التي وجدها بعد أن تساءل عن كيفية تفسير العقل لوجودِ ثقافات عديدة وعقل إنساني واحد.. وجدها فكان ما توصّل إليه بعد بحثه الرائد: «الروح الإنسانية من خلال تنوعاتها الثقافية، تعبر عن حقيقتها الواحدة في التنوع، فـ «المثال» وهو المشعل المضيء، يستعمل كل حضارة أداة للتعبير عن ذاتها خلال وعي التاريخ الإنساني لذاته ووجوده. لذا، تمثل كل حضارة أو ثقافة، مشعلاً ينير السبيل الذي تطرقه تلك الحضارة أو الثقافة وهي تسعى إلى تحقيق «المثال» الموجود في صلب وجودها، وعبر وحدة الإنسانية المتمثلة في التيارات العديدة للروح في التاريخ».
من هنا، وإن كان «اليازجي» قد غاص في ثقافات العالم ومدارسه وأساطيره الرمزية الظاهرية والسرية الباطنية، ليُحيي تلك الثقافات التي استغرقت كيانه ووجوده، إلى أن مكّنته من الوصول إلى الحقيقة الكامنة في العقل الواعي، فإنه قد وجد بأن أهمية تلك الحقيقة تكمن في مساهمة هذا العقل بوحدة الفكر الإنساني، وانتقال المشعل الحضاري.
إنه العقل القادر على جعل الأمم تتخطى أنانيتها في تجاهلها لسيرورة المثال أو الروح، واحتفاظها بمشعل الحضارة بعيداً عن الإنسانية كلّها. الأمم التي تؤكد بأن العقل المتفرّد بذاتيته، هو من يقيم الحواجز بين الثقافات والحضارات، مثلما العوائق التي تدمرها..
أيضاً، التي تؤدي وبعدم قدرتها على التوفيق بين التنوع الثقافي، إلى صدام الحضارات وتناحرها، واحتضار الفكر والعقل الإنساني.
بالتأكيد، هو أمرٌ في غاية الصعوبة ويحتاج، إلى دراسة عميقة وجهود صادقة.. إلى تأمل طويل وصولاً إلى ما توصل إليه «اليازجي» ولازال تحقيقه مستحيلا.. هو أمرٌ قال عنه، وبعد تأسُّفه: «يؤسفني أن أقول، إن مثل هذه المحاولة قضية تشير إلى موت الحضارة أو اندحار الإنسان، فالحضارة تموت أو تذبل أو تتقهقر، أو تقف عقبة في سبيل التطور الصاعد، وقد تتضاءل عندما تحتجز أمة من الأمم مشعل الحضارة لذاتها.. عندئذٍ، تسيطر البربرية، وتعاني الإنسانية من اختلال التوازن الحضاري والنفسي والفكري والروحي.. إنه انفصام الشخصية الإنسانية.».
هفاف ميهوب
التاريخ: الجمعة 27-12-2019
الرقم: 17156