لا يمكن لأي عملية تنمية حقيقية أن تنجح دونما الاعتماد على العامل البشري والاستثمار الأمثل لهذا الرأسمال الذي يعد الثروة التي لا تنضب والأساس المتين لكل بناء مستقبلي وهنا تصبح مسألة بناء الجيل أولوية الأولويات في خطط التنمية التي تضعها الحكومات والأجهزة المعنية برسم السياسات الاقتصادية المستقبلية كما تبرز قضية بناء الإنسان أولوية الأولويات بوصفه الحامل الأساسي لذلك المشروع والهدف منه في الوقت ذاته وتغدو السياسة التربوية ومنظومتها عنواناً أساسياً يشكل المدخل الأساسي لعملية التنمية المنشودة.
إن إلقاء نظرة فاحصة على تقارير التنمية البشرية الصادرة عن منظمات متخصصة في هذا المجال تشير بشكل واضح إلى قصور في خطط التنمية وفي محصلات الإنتاج ومردودية الفرد والمؤسسة معاً وهذا يعكس مؤشراً سلبياً وعيباً في ثقافة العمل ما يحيلنا إلى جذر المشكلة وهو التكوين العقلي وثقافة المجتمع ونصبح هنا أمام ظاهرة اجتماعية مركبة الأسباب يأتي في مقدمتها البنية المشكلة لتلك الثقافة وهذا بدوره يدفع باتجاه قراءة الحقل المعرفي الذي نشأت وفق محدداته أي متقابلتي العقل المكون والعقل المكوِن والتعامل مع مدخلات البنية العقلية لا مخرجاتها فقط لجهة أنها السبب الأساسي الذي يفسر تلك الظاهرة.
إن نقد الثقافة الاجتماعية وجملة الظواهر السلبية في مجتمعاتنا لا يمكن إحالتها بمجملها إلى ظاهرة الفساد المستشرية في مؤسسات السلطة في أغلب البلدان العربية وهو ما تشير إليه بشكل واضح التقارير الصادرة عن المنظمات الدولية المتخصصة ولكنها تعود في جانب أساسي منها إلى الثقافة الاجتماعية والمنظومة القيمية عند الأفراد وسلم الأولويات في تلك المنظومات وهي التي تشكلت تاريخياً على تراتبية يغلب عليها الطابع المعياري الوجداني أكثر من القيمة العملية والمردود العملي أو ما يمكن تسميته العمل المفيد والنافع وإذا وضعنا المسألة في ميزان الفلسفة فإنها تحال إلى الفكر النظري المثالي لا البراغماتي النفعي وهنا جذر المشكلة ونواتها الصلبة.
إن تكريس ثقافة العمل والإنتاج قيمة اجتماعية وإن الإنسان المنتج هو الأكثر احتراماً في مجتمعه ونبذ وإدانة ثقافة الكسل والتسول والتواكل هي مداخل صحيحة لمعالجة ظاهرة ضعف الإنتاجية ولا شك أن هذا لا يكفي فلا بد من حزمة إجراءات قانونية وجزائية رادعة إضافة إلى إعادة النظر في قوانين العمل وآليات الترفيع والحوافز وغيرها من عناصر مرتبطة بالعمل الوظيفي ويبقى الأساس في كل ذلك أن تتوفر للعامل كل أسباب الأمن الوظيفي من أجر مجز وحماية وظيفية على قاعدة الحقوق والواجبات إضافة إلى معالجة كل أسباب ضعف الأداء العام وقلة المردودية وعلى رأسها ظاهرة الفساد محرقة اقتصاديات الدول النامية وهي التي تعود في جذورها إلى ضعف وتراجع ثقافة النزاهة في ظل انزياحات منظومة القيم عبر خطاب العولمة ومحاولات تكريس ثقافة التسليع والمتعة وإحلال ثقافة وهج المال بديلاً عن وهج الفكر والمعرفة والتعامل مع الإنسان بوصفه كائناً بيولوجياً يعيش ليأكل ويستمتع لا بوصفه كائناً معرفياً.
د. خلف علي المفتاح
التاريخ: الاثنين 30-12-2019
الرقم: 17157