أينما توجهت في سورية فثمة موقع أثري وحكاية حضارة وتاريخ، ما من بقعة جغرافية إلا وتحتضن ما هو مكتشف أو غير مكتشف ينتظر دوره في الحفريات والتنقيب, من هذا الكم الهائل والكبير من المواقع الاثرية نقف اليوم عند دورا اوروبوس, صالحية الفرات, وهي المدينة التي كانت موضوع كتاب الباحثة فاطمة عيسى الطويل بإشراف الدكتور محمود حمود مدير عام المتاحف والاثار, صدر الكتاب عن الهيئة العامة للكتاب بدمشق العام الماضي, ويقع في 338 صفحة من القطع الكبير, وهو يضيء على تاريخ المدينة اجتماعيا وثقافيا.
فهي كما تشير معطيات المديرية العامة للآثار والمتاحف، تقع مدينة دورا أوروبوس على الضفة اليمنى لنهر الفرات وتبعد عن مدينة دير الزور 90 كم وعن مدينة البوكمال 40 كم. كانت دورا مطمعاً لجميع أقوياء عصرها من مقدونيين وروم وفرس بسبب موقعها الاستراتيجي الهام المطل على طرق القوافل التجارية بالإضافة إلى ما تتميز به من دفاعات حصينة وقوية. اختار المهندسون المقدونيون الذين كلفوا ببناء دورا في القرن الثالث ق.م مكاناً تنتهي عنده الهضبة السورية فجأة لتتحول إلى منحدر صخري ينحدر باتجاه الفرات ليكون موقعاً دفاعياً بامتياز.
المكتشفات الأثرية
عثر في مدينة دورا أوروبوس على عدد كبير من المكتشفات الأثرية والمعمارية، والتي تمثلت بعدد كبير من المعابد والبيوت السكنية بالإضافة إلى كنيس وكنيسة.
قصر الحاكم
وهو من أبرز المباني في دورا، ويتميز بواجهة ضخمة (يتراوح ارتفاعها بين 20-30 قدماً)، ويؤرخ بالفترة ما بين القرن الثالث ق.م والقرن الأول الميلادي، ويقع في الجهة الشرقية من المدينة ويفصله عن القلعة واد.
يتألف من مدخل رئيسي مع بوابات ثانوية. والمدخل يؤدي عبر غرفة إلى باحة سماوية مربعة الشكل تحيط بها الأعمدة من كل جوانبها. ويتصل هذا القسم عبر بوابة تؤدي أيضاً إلى باحة سماوية مشابهة لسابقتها، تحيط بها مجموعة من الغرف والردهات المستطيلة على صف واحد. أما في الجهة المقابلة للنهر فتحتوي على غرف وشرفات وردهات ذات شكل نصف دائري والمشرفة بأطلالها على النهر مباشرة.
باب تدمر
يتميز هذا المبنى الضخم بمخطط مربع الشكل تقريباً (طول ضلعه حوالي 23م) ويقع مدخله على محور واحد مع برجين ويمتد هذا المحور من الشرق إلى الغرب محدداً ممر الشارع. يضم المبنى مدخلين مقببين يبلغ عرضهما حوالي 5 م ويتجاوز علو عتبتيهما 80 سم.
مثل باب تدمر صرحاً عظيماً يمر عبره المشاة والفرسان والقوافل في الفترة الهلنستية، أما في الفترة البارثية فقد أصبح مجرد مكان للعبور، وبذلك فقَدَ الباب أهميته إلى أن دمر جزئياً في القرن الثالث الميلادي نحو 235 م على أثر الحروب الساسانية-الرومانية.
السور الغربي
وهو عبارة عن سور ضخم يبلغ ارتفاعه 30 قدماً وسماكته 15 قدماً، دعّم بالأبراج وزود بباب مهيب في منتصفه (باب تدمر), بدأ بناء السور في الفترة الهلنستية باستخدام الحجارة الكبيرة المنحوتة المربعة الشكل، لكن يلاحظ أن أعلى السور مبني من الآجر الغشيم، ويفسر ذلك بأنه مع اقتراب الفرس من المدينة وتهديدهم لها كان على السكان الإسراع في إكمال بناء السور باستخدام الآجر وذلك لتوافره ولسهولة الحصول عليه. أما في الفترة الرومانية فقد قام الرومان بتكديس التراب على امتداد السور ليحصلوا بالنتيجة على ردمٍ بعرض 15 قدماً عند القاعدة وبارتفاع السور نفسه ولبسوه بالآجر الطيني لحمايته من عوامل الحت ما تسبب في طمر كل المساكن المبنية بالقرب منه بما فيها المسكن المسيحي والكنيس اليهودي.
القلعة
تتميز القلعة بمخططها المستطيل، وقد بنيت بالحجارة المنحوتة، وزودت بسور بلغ عرضه 2,60 م وارتفاعه 16,40 م، تتخلله أبراج مربعة متعددة الطوابق. وتضم القلعة ثلاثة أبواب للنجاة كلها ذات أقواس محورية. اكتشف في مركز القلعة المرتفع جداً بناء هام يعود إلى الفترة الهلنستية، وآثاره موازية لجدار سور القلعة. هناك بناء ذو أعمدة أكثر حداثة من البناء السابق (الفترة الرومانية أو البارثية) يتناضد فوقه ويعتقد بأنه كان قصراً.
الآغورا
وهي الساحة العامة ومركز الحركة التجارية، وتقع في وسط المدينة وعلى الجهة الشمالية من الشارع الرئيسي وتأخذ شكلاً مربعاً، وتحيط بها الأسواق والبيوت السكنية. اكتشف تحت المباني الأحدث في الآغورا مبان تجارية تعود إلى الفترة السلوقية كانت متوضعة حول حيز فارغ. استبدلت هذه المباني فيما بعد تدريجياً في الفترة الفارسية بمساكن بنيت بحجارة معاد استخدامها فوق أساسات من الدبش المملط بالصلصال. واستمر بناء هذه المساكن بشكل غير منتظم حتى شغلت كل الحيّز المركزي الفارغ.
الحمامات
تحتوي المدينة على عدد من الحمامات المشيدة بالآجر، والتي كانت تحتوي على قنوات تصريف وخزانات للماء وقساطل لمرور المياه الحارة والباردة، ويضم الحمام مقصورة حارة و فلتر وربما ردهة للرياضة أو للاستراحة والتدليك.
البيوت السكنية
تتميز العمارة السكنية في دورا بأنها محلية الطابع بشكل عام. تشكل الباحة المركزية العنصر الأساسي في مخطط المسكن، إذ تنتظم حولها كل الغرف فتصطف إما على جوانب الباحة الأربعة أو على ثلاثة جوانب أو على جانبين وبشكل نادر جداً على جانب واحد فقط. يميز النموذج المعماري الأول والثاني القصور والمساكن الضخمة التي يلحق بها باحات ثانوية في بعض الأحيان وتكون مزودة بردهة تفصل الباحة عن الخارج، بينما يتوافق النموذج الثالث مع مساكن متوسطة المساحة تفضي باحتها إلى الخارج مباشرة.
عرفت مساكن دورا كما هو حال المباني الأخرى إصلاحات وتعديلات عديدة خلال تاريخ وجود المدينة. لم يبق من المساكن الإغريقية الأكثر عمقاً والأكثر خضوعاً للتعديلات إلا بعض البنى التي يمكن التعرف عليها. يلاحظ من جهة أخرى أن مخططات المساكن البارثية أبسط من مخططات المساكن الرومانية التي تميزت بضخامتها وفخامتها وغناها حتى أن أكثر المساكن العائدة للطور البارثي تحولت إلى وحدات ملحقة بمجمع سكني أكبر فيما بعد.
المسرح
ويقع في الجزء الشمالي من المدينة وهو مشيد بالحجارة والجص واللبن، وهو مستدير الشكل تقريباً، ولكنه لا يحتوي على المقاعد الحجرية كما هو معروف في بصرى وتدمر وجبلة. ويوجد ضمن معبد ارتميس مسرح صغير يشبه المسرح المذكور بأدراجه الحجرية والجصية والمخصصة للاستماع إلى الدروس والحفلات الدينية.
معبد أدونيس
يتميز معبد أدونيس بتنظيم خاص إلى حد ما، فهو يتألف من باحة متطاولة تنتصب الغرف الملحقة بها على طرفها الجنوبي الشرقي. يتقدم قدس الأقداس الذي تجانبه غرفتان قوس بقطر 4,75 م، ويوجد وراء جداره الخلفي ممر لا يفضي إليه أي باب.
اقتبس المخطط العام للمعبد من معابد بلاد الرافدين باستثناء القوس المتقدم لقدس الأقداس فهو بحسب رأي م. براوان مقتبس من المعابد الفارسية المعاصرة (القرن الثاني الميلادي) لكنه مبني فوق قاعدة رافدية.
إعداد: يمن سليمان عباس
Yomn.abbas@gmail.com
التاريخ: الجمعة 3- 1 -2020
رقم العدد : 17161