الثورة أون لاين: منذ عشرات السنين تفننت المرأة السورية بصناعة أشهى وأطيب المأكولات
خاصة المأكولات الصعبة والتي تحتاج لوقت طويل في تحضيرها كورق العنب والمحاشي والملوخية بالدجاج والمقلوبة ناهيك عن صناعة المكدوس والكشك والجبن والدبس والزبيب وغيرها.
حيث يعود الرجل بعد نهار عمل طويل ليجد ما يشتهيه مما لذ وطاب سواء كان هذا الطعام يتطلب مالاً كثيراً أو بسيطاً فالدجاج والبيض موجودان في بهو الدار الذي كانت تتفنن المرأة في تقسيمه إلى عدة مساكب لتزرع فيها ما استطاعت من النعنع والكوسا والباذنجان والبندورة.. ناهيك عن بعض الشجيرات المثمرة.
وأخذت المرأة تنخرط في العمل خارج البيت شيئاً فشيئاً إلى جانب الرجل فبات من حقها طلب الرفاهية من جهة ومن جهة أخرى للبحث عن وسائل سريعة لتنفيذ أعمال الطبخ التي بقيت تشكل هاجساً يومياً للمرأة وسؤالاً يتصدر أولويات أجندتها اليومية «ماذا ستطبخ اليوم؟».
نقطة بداية
وكان لابد من وجود آلية معينة تتقلص معها مراحل صنع الطعام وقد استطاع البقال محمد سامر الفوال صاحب سوبر ماركت «أبو ياسين» في منطقة المزة عام 1989 من البدء بتقديم الخضراوات المجهزة حيث كانت نساؤه الثلاث يحفرن الكوسا والباذنجان.. بينما كان يبيعها لبعض النسوة مقابل مرابح كبيرة جعلته يوسع عمله في هذا الاتجاه، وهذا بدوره شجع البعض لتقليده فباتوا يدخلون التجربة التي سرعان ما اكتشفوا أرباحها الجيدة بعد أن وجد أصحاب المحلات كثرة الإقبال على منتجاتهم من الخضار الجاهزة رفعوا أسعارهم بحيث تفوقت على أسعار كل الأسواق المعروفة، وباتت هذه الأسواق يطلق عليها سوق (الغلوجية) أو سوق الغلاء وربما بعد ذلك بسوق التنابل ورغم أن أول نشأتها كانت في منطقة المزة إلا أنها تنتشر الآن في الأسواق.
جولة في السوق
وإذا ما تجول المرء في سوق التنابل في الشعلان فإنه سيجد كل شيء مرتباَ وجاهزاً بشكل يغري المرء ليقترب ويشتريه وباتت سوق التنابل هناك جزءاً من دمشق وتاريخها، هنا منظر الخضار يفتح الشهية يشجعك على الشراء وإن لم تكن تنوي الطبخ، لاسيما أن الباعة يتنافسون على التفنن في إبرازها وترتيبها ضمن أكياس شفافة بأنواع وأشكال متنوعة، فها هي شرائح الشوندر الحمراء المسلوقة والمخللات بشتى الألوان الزاهية من زهري وأحمر وأخضر، وهنا أكياس الخضار المقطعة المعدة لصنع الشوربة، وإلى جانبها تصطف الفاصولياء الحب الطازجة بأنواعها (الكلاوي وعيشة خانوم وبيض الحمام) لا تحتاج بمجملها إلا إلى طهي لوقت قليل لتتحول بعد دقائق إلى طعام لذيذ دون عناء.
آراء متباينة
تولدت فكرة كتابة هذه المادة عندما طلبت من زوجتي أن تصنع المكدوس ولم تكن على دراية تامة بالأمر وليس لديها الوقت للتجربة ولا خسارة المال على تجارب فاشلة؟ فقيل إنه يوجد باذنجان مسلوق وجاهز وكذلك توجد حشوة جاهزة أيضاً في سوق التنابل ولدى الذهاب يومها إلى السوق، والوقوف أمام أحدى المحلات كانت سيدة معمرة من الخلف تتمتم لصديقتها: (نساء آخر زمن.. على أساس صناعة المكدوس كتير صعب..) وكان الجواب الحاضر في الذهن (الله يسامحك يا خالة.. ليست كسلانة.. لكنها لا تملك الوقت الكافي ولا المهارة اللازمة لصناعته) هنا كان الرأي الأول لقسم من النسوة يفرض نفسه بوضوح حيث إن ذوات العمر المديد لا يحبذنه ولا يتقبلن حتى الفكرة.
السيدة روعة الأسود كانت وجهة نظرها مختلفة وتساءلت: ولماذا لا ترتاد سوق التنابل، إذا توفرت أسباب الراحة للمرأة فلمَ تجهد نفسها، وتعتقد أنها لو تزوجت في المستقبل فستعتمد كلياً على شراء هذه الخضراوات لاسيما الكوسا والباذنجان لأن حفرهما متعب للغاية، وكذلك الحال بالنسبة للف ورق العنب والملفوف.
أما الآنسة هلا فرح فلا تحبذ شراء كل شيء من سوق التنابل بشكل يومي لأن تقطيع الخضار ليس بتلك الصعوبة باستثناء الباذنجان فهو يلون يديها بالسواد ولا تستطيع الخروج على الوظيفة بهذا المنظر.
وترى يسرى أنه لا داعي لشراء الخضار يومياً من السوق باستثناء المونة فهي تشتريها بأكملها جاهزة ومحضرة مسبقاً لأن إعداد المونة في نظرها يأخذ الكثير من الجهد والوقت.
لماذا التنابل؟!
التنبلة كلمة متداولة بين العامة في دمشق وتعني الكسل وسوق التنابل الاسم المتعارف عليه أو (سوق الكسلانين) ولا نعلم إن كان يقصد بها النساء فقط أم يضم إليهن الرجال أيضاً ممن يرتادونها لشراء الخضار الجاهزة من الطلاب والمغتربين..؟
من آراء الباعة تم التأكد أنهم يقصدون بها النساء التنابل (أي قليلات الحركة في بيوتهن).
وحول تسمية السوق بالتنابل يقول ممدوح الباشا (صاحب محل خضار في الشعلان) إن اسمه سوق الأكابر لا التنابل فيما شاركه صديقه الذي كان يساعده في إعداد الخضرة (التنابل) كلمة أطلقها اللبنانيون على السوق وليس السوريون. ويقول أبو أحمد في سوق باب سريجة: لم يعد أحد يجرؤ على تسميتهن بالتنابل بل المدللات لنرغبهن في الشراء.
زبائن السوق كانت تقتصر على ذوي الدخول العالية لكن الطلب في ازدياد ليشمل ذوي الدخول المحدودة أيضاً من الموظفات والمدرسات والدليل على ذلك انتشار نموذج سوق التنابل في الشعلان بين الأسواق الشعبية أيضاً مثل سوق باب سريجة وسوق الشيخ محيى الدين بعد أن كان حكراً على الأسواق الغالية كسوق الشيخ سعد في المزة وشارع بغداد ويعود السبب إضافة إلى الحاجة إلى توفير الوقت والجهد وإلى شيوع الأنماط الاستهلاكية في الحياة اليومية، إلى عدم وجود فارق كبير في سعر الكيلو الواحد للخضار قبل وبعد عرضها في سوق التنابل.
فرصة عمل
يستند قيام السوق إلى حقيقة وجود نساء يرغبن بالعمل وربما لا يجدن فرصة عمل لعدم امتلاكهن المؤهلات المناسبة سوى تقشير وتقطيع الخضار بعد أن يتعاقدن مع أصحاب المحلات الذين يقومون بدورهم بشراء الخضار بأسعار زهيدة من سوق الهال ليتم بيعها في سوق التنابل بعد إضافة أجرة النساء والنقل والتغليف إلى سعر الكيلو الواحد والتي يدفعها المشتري لهذه الخضار، وقد باءت الجهود بالفشل في الحصول على احصائية دقيقة لعدد النسوة اللواتي يعملن في مجال تحضير الخضراوات للبقاليات التي تبيعها، ولكن أشار بائع إحدى محلات الخضار أن بعض المحلات التي يرتادها الكثير من الزبائن قد تعيل أكثر من سبع أسر فقيرة.
والنساء اللواتي يتم التعاقد معهن يتم إرسال الخضار لهن بعبوات كبيرة من سوق الهال لتبدأ تلك النسوة بإعداد الخضار كحفر الكوسا والباذنجان وفرم البقدونس وتنقية الملوخية والفاصولياء مع تقطيعها تأخذ المرأة بين 5 – 10 ليرات على الكغ بينما يحصل البائع على حوالي 40 – 50 ل.س ربحاَ إضافياَ عل كل كغ.
وتنظر الطبقة الفقيرة لهذا السوق وأمثاله رغبة في الاستفادة من التجربة والربح الناتج عنها حيث بات كل بقال في أصغر الأحياء يتعاقد مع بعض النسوة اللواتي يدرن على المحال عارضات خدماتهن في تقديم الخضار الجاهزة لتلك البقاليات.
ويقوم البقال بإضافة أسعار النقل والتغليف ليقدم طبخة شبه جاهزة.
فرصة عمل من نوع آخر
من جانب آخر فالعمل في سوق التنابل شكل فرصة عمل ذهبية للعديد من الفنانين السوريين في أدوارهم التمثيلية في الدراما السورية وبات ملهماً فكرياً لبعض الكتاب التلفزيونيين فمن لا يذكر الفنان دير لحام في مسلسل (عائلتي وأنا) بعد أن خسر كل أملاكه في إحدى صفقاته وتحول من تاجر إلى عامل في سوق التنابل بفكرة استقاها من خادمته تحولت عائلته بعدها إلى ورشة لتحضير الخضار الجاهزة.
وهناك صورة الفنانة أمل عرفة في مسلسل (غزلان في غابة الذئاب) وهي تؤدي دور الفتاة الفقيرة التي تساعد أمها وأخوها في إعالة أسرتها لتقوم بتقطيع الخضار وحفر الكوسا والباذنجان للباعة، ومثلها الفنانة فاتن شاهين في مسلسل (ذكريات الزمن القادم) حيث كانت تمثل دور زوجة رجل مريض عاجز عن العمل وكيف أن عملها في هذا السوق هو مصدر رزقها وأولادها، وهذا المشهد تكرر مراراً في الدراما السورية.
رأي وموقف
بين من يرى أن الشراء من سوق التنابل ليس سوى (فذلكة) وتقليداَ للثريات وبين من يرى أنها تحولت في كثير من الأحيان إلى ضرورة يبقى الحكم تابعاً للموقف فهناك نساء غير موظفات قد يضيعن وقتهن طوال النهار أمام التلفاز أو المرآة، أو التجوال في أسواق الموضة لكنهن يعتمدن بشكل كلي على هذه الأسواق دون سبب سوى عشق النمط الاستهلاكي والتقليد للغير، هؤلاء يصح إطلاق صفة التنبلة عليهن بجدارة لكن ترى في الجانب الآخر نساء يعملن أكثر من منتصف النهار للوقوف إلى جانب أزواجهن، هؤلاء يضطررن إلى الاستعانة في كثير من الأحيان بسوق التنابل، لسن تنابل لكن نشيطات ومكافحات.
وتبقى الذكرى
لا يوجد أجمل مما تصنعه راحتا أمي!! من منا لا يخزن في ذاكرته اللحظات التي تسبق الغداء عندما تبدأ الأم بتقطيع الخضار وتقشيرها، ذلك الضجيج الدافئ الحنون الذي كان يختلط برائحة الشوربة في فصل الشتاء، نسمعه من المطبخ بعد العودة من المدرسة، ولا يزال الحنين لتلك الأوقات حيث يبقى الفكر مشغولاً طوال فترة العودة ماذا طبخت أمي يا ترى؟
هناك افتقاد لتلك اللحظات، نمط الحياة في تغير مستمر نمط السرعة يغلب عليه كيفما اتجه المرء، ولكن..
يبقى في الذاكرة تلك الأوقات لتشكل ركناً جميلاً من الذاكرة والطباع والعادات الشرقية المتأصلة في الأعماق لدى السواد الأعظم من الأجيال.
الثورة